تحوّل «الذّكاء الصّناعي» إلى حديث يومي مع التّطور المذهل الذي شهدته الأبحاث العلمية في مختلف حقول المعرفة، ولقد أظهر «سكرتير غوغل» على سبيل المثال - ما ينبئ عن طفرة عجائبية قد تتحقّق لمستعملي أنترنيت، فهو يمكن أن ينظم الأجندة، ويقوم ب»البحث»، ويرتّب النتائج ويصنّفها، بل إنّه يشارك في حوار يبلغ مستوى لا بأس به من الجدّية، ويكاد يتحوّل إلى رفيق يومي، لولا ما يُظهر، بين حين وآخر، من «غباء» مجازيّ، لأنّ ذكاءه، هو الآخر، ما يزال مجازيا بطبيعة الحال، وهو لا يُعدَم دليلا يقدّمه عن ذلك في أثناء الاستعمال، وهذا الوضع يجعل «الذكاء الصناعي» موضوع نقاش حيّ بالأعمال الأدبية والفنيّة التي تستشرف وتحلّل وتقترح؛ وبناء على هذا، رأينا أن نلقي نظرة على الموضوع، ونتساءل: هل يمكن أن تتجاوز الآلة صانعها مستقبلا؟!. يتفق معظم المتابعين على أن «الذكاء الصناعي» يهدف - بالدّرجة الأولى - إلى «محاكاة القدرات المعرفيّة للإنسان»، بل إنّه يمكن أن يراكم المعارف في أثناء التفاعل اليومي، وهو يطمح إلى إقحام درجة من «الوعي» في هذا «الذّكاء»، وإن كانت هذه المسألة تبقى - لحدّ السّاعة خالصة للإنسان وحده، وهذا ما يجعل المجتمع العلميّ ينقسم بين مرجّحٍ للتّوصل إلى تحقيق «الآلة الواعية»، واثقٍ من قدرة الذكاء البشري على ذلك، وبين رافضٍ للفكرة من أصلها، باعتبار أن «الصّناعي» و»الواعي» يمثلان طرفين متناقضين في مفارقة يستحيل أن تجد حلاّ موضوعيّا. هذا هو الذّكاء الصناعي.. ينقسم الذكاء الصناعي حاليا، إلى فئتين كبيرتين، درج الباحثون على تصنيفهما بما يوافق «الإمكانات» و»الوظائف»، ويتضمن النّوع الأول الآلات القادرة على أداء أيّ مهمّة فكرية مثل الانسان تماما، فهذه آلات مصمّمة لتحقيق شيء من «الإدراك العام» أو»التعلّم»، ويمكن من خلالها إنشاء مهارات تقلّل من الوقت اللازم ل»تدريب» الآلات، وهذه هي الأنظمة التي يتعارف عليها الباحثون بأنّها تدخل في «الذكاء العام»، وتقابلها في نفس النّوع - أنظمة «الذكاء الممتاز»التي لا تتوقف عند حدود إعادة إنتاج «الذكاء البشري»، وإنّما تحرص على الحصول على ذاكرة أسرع، واكتساب قدرات على معالجة البيانات وتحليلها، ويبقى الفرع الثالث وفق موقع arcoptimizer – الذي يُدعى «الذّكاء المحدود»، وهذا يختصّ بأداء مهاممحدّدة، وفقمقتضيات النظام المخصص له، ويبقى الأكثر شيوعا في مختلف حقول الصّناعة اليوم. أمّا النّوع الثاني من الذّكاء الصناعي، فهو يركّز على الوظائف حصرا، ومنه «الآلات التّفاعليّة» التي تتعامل مباشرة مع العالم الواقعي، مثل برنامج AlphaGo الذي صنعته الشركة البريطانية DeepMind واشترته Google عام 2014، وتمكن البرنامج من التفوق على لاعبين عالميين من خلال استجابته لكل الأفعال بشكل معقّد للغاية، فهو يستعمل شبكات عصبية لتقييم استراتيجيات اللّعبة. وتحت لافتة النوع الثاني، نجد كذلك «الآلات ذات الذّاكرة المحدودة»، وهذه يمكنها الاحتفاظ بالذاكرة لفترة زمنية قصيرة، وهي لا تختلف عن الآلات التّفاعليّة، ولكن، يمكنها التّعلم من التّجارب السّابقة، وهي تستخدم في «السّيارات الذّاتيّة القيادة» التي تتمتع بذاكرة تمكّنها من تخزين المسافة التي قطعتها السيارة، وسرعتها الأخيرة، وحدّ السّرعة، وعلامات الممرات، وإشارات المرور، وغير ذلك من فروض حاجة تسيير المرور، وفي مقابل الأنظمة «ذوات الذاكرة المحدودة»، نجد «آلات الإدراك الذّاتي»، وهذه يفترض منها أن تكون على دراية بنفسها، تكاد تكون أقرب إلى «الفكر» البشريّ، ويهدف مصمّموها إلى جعلها قادرة على «توليد المشاعر» و»الحاجيات» التي تماثل ما يتميّز به البشر من عواطف وأحاسيس. وهذه هي أصوله.. لا شكّ أن التطوّر التقني الذي شهده العالم مع القرن الواحد والعشرين لديه أصوله في الأعمال الأدبية والفنيّة، وهذا يمكن الاستدلال عليه بمخترعات كثيرة مذهلة، لم تكن سوى خيال مجنّح قد يعجز عن إقناع الأطفال، ومن ذلك «الحذاء الذّكي» الذي صنعته «نايكي» هذا العام، ومنحته أدوات القدرة على عقد رباطه بنفسه، واستشعار القوة البدنية لمن ينتعله، علما أن هذا حذاء سبق أن شاهده العالم خيالا في فيلم (Back to the Future) عام 1985، ولم يكن شيئا مذكورا قبل ذلك، تماما مثل «لوح التّزحلق الطائر» الذي يستعمله بطل الفيلم، وتم تحقيقه في الواقع عام 2015. وتتعدّد الأمثلة عن الأدبي – الفنيّ الذي يستبق الواقع الحيّ، فمن المركبة الفضائية التي هبطت على القمر عام 1969، بعد أربعين عاما من فيلم (Woman In The Moon)، إلى «تحريك عناصر الشّاشة على الهواء» الذي تحقّق اليوم لشركة مايكروسوفت، بعد أن أذهلتنا الفكرة في فيلم (Minority Report) عام 2002، مرورا بفكرة اللوح الإلكتروني آيباد التي تحققت في 2009، بعد أن قدم لها فيلم (Space Odyssey) عام 1968، حين عرض لوحا شبيها ب»آيباد» ستيف جوبس، أمّا السّيارات ذاتية القيادة التي تتنافس على اختراعها «BMW» و«Mercedes» و«Apple» وgoogle»، فهذه سبق أن ساقها آرنولد شوارزنيغر عام 1990 في فيلم (Total Recall). وهذه هي آفاقه.. اتّخذ ّ»الذكاء الصناعي» لنفسه مكانة متميّزة هذا العام، ضمن المنتج الأدبي – الفنّي، فقد بدأت الفكرة تستفز النقاش بين أنصار «الكلّ تقني» و»القدرة على تحقيق الوعي الذاتي للآلة»، في مقابل المتوجسين من تسليم الأمر لجمادات تتحرك وفق تعليمات بشرية لا يمكن أن تحيط بجميع الاحتمالات التي يمكن أن يصطنعها الواقع المعيش، وهذا ما عبّر عنه فيلم «The Adam Project» الذي صدر في الحادي عشر من مارس الجاري، وهو من الخيال العلميّ الذي يتعامل مع فكرة اختراق الزمن، والإمكانات التي يتيحها «الذكاء الصناعي» الذي قد يستغلّه مرضى النفوس في تمرير مشاريعهم على حساب القيم الإنسانية، وينتهي بانتصار «الانسان»، وتدمير الآلة باستغلال برمجياتها الخاصة، ولا يختلف فيلم «Big Bug» (الخلل التقني الكبير) الصادر هذا العام هو الآخر، ويصف مرحلة مقبلة من التاريخ يحدّدها ب2045، يتخلّى فيها البشر عن جميع مهامهم ل»الذّكاء الصّناعي»، ويقدّم الفيلم صورة مجملة عن سهولة الحياة التي توفرّها الآلات، غير أن الوضع ينقلب رأسا على عقب، حين يحدث خلل تقني بالمدينة «الذكية»، فتتواتر أخبار الازدحام بالطرقات، وتتفاقم مشاكل غير واضحة تواجهها جميع المؤسسات، إلى أن تغلق الروبوتات أبواب منزل البطلة «آليس»، فلا تتمكن العائلة، ولا الجارة التي حلّت ضيفة عليها، من الخروج للنجاة من الأخطار المحدقة بهم، لأن الآلات مبرمجة على الإغلاق بقصد حماية أصحاب المنزل، ولا يمكن أن تدرك بأنّها تضع الجميع أمام خطر كبير عوضا عن حمايتهم، وهنا، تبدأ المناورات من أجل تجاوز البرمجة، والتّخلص من البروتوكولات الأمنية التي تؤدي وظيفة معكوسة، إلى أن يتمكن أفراد العائلة من التّوصل إلى أفكار تقلب الأوضاع لصالح الفكر البشري، ويرتّب أفراد الأسرة ما يكفل استعمال البرنامج ضد نفسه. ولا تختلف فكرة فيلم «The Book of Eli» الصادر عام 2010، توقّع كاتب السيناريو دمارا عظيما يكتسح الكرة الأرضية بسبب التطور العلمي والتكنولوجي الذي فسح المجال لحرب طاحنة قضت على جميع أشكال المعرفة، فلم يتبّق منها يبقى سوى «كتاب إيليا» الذي يكتشف من يرغبون في الحصول عليه أنّه مكتوب بلغة «برايل» التي لا يمتلكون أدوات قراءتها، بينما يكافح البطل (دينزل واشنطن) من أجل إنقاذ «الكتاب الوحيد» من الضّياع إلى أن يصل به إلى مطبعة كلاسيكية تسمح باستعادة «مجد الانسان»، ولكن ليس من خلال «الكتاب» نفسه، وإنّما من ذاكرة «إيليا» الذي يكتشف المتفرج أنه «أعمى»، تماما مثلما كان الشاعر هوميروس، في زمن ذاكرة الانسان. غوغل الأعجوبة.. ولا تعوزنا نماذج الأعمال الأدبية – الفنية التي تدفع بمادة «الابتكار» من جهة، وتحذّر من عواقب الإمعان في الرضوخ لها والانصياع لفروضها من جهة أخرى؛ فهذه الأعمال، وإن كانت تدعو إلى الاختراع وتقترح له من الأفكار غير المعقولة ما يمثّل قوّة دفع حقيقية لتطوّر أكبر، إلا أنها في الغالب تضع سطرا واضحا تحت فكرة «الذكاء» غير المكتمل للآلة التي يمكن خداعها بأبسط الوسائل، وتجاوز ما تضعه من عقبات أمام الحياة البشرية، وإذا كانت البنى السّردية في عمومها تشتغل على صناعة «الحبكات» بطريقة لا تترك أيّ أمل في تجاوز المحنة المعروضة، فإنّ هذا ما يتطلبّه «التشويق» بما هو من مقتضيات العمل الفنّي، قبل التّوصل إلى مرحلة «الحلّ» الذي تستخرجه من بنية المحنة نفسها. وإذا اختبرنا «مساعد غوغل» على سبيل المثال فإنّنا نجده يمثل سكريتارية حقيقية بين يدي أيّ مالك لهاتف ذكي، فهو يمكن أن ينظم الأجندة، ويرتب الملفات، ويتّصل هاتفيا وفق الأوامر الموجّه إليه، بل يمكن أن يقترح فسحة للراحة، فيلقي بعض النكت، أو يختار من مكتبة الموسيقى ما يروّح عن النفوس، وحتى إن نسي المستعمل عنوان الأغنية أو الموسيقى التي يريد سماعها، فإنّ الدندنة باللّحن، أمام الهاتف، تكفيه كي يكتشف «مساعد غوغل» المقصود، إذعانا لأمر (What's the Song)، وإذا جاءه الأمر (تصبح على خير غوغل)، فإنه يردّ بأسلوب غاية في اللّباقة، ثم يطلق موسيقى هادئة، ويصطنع أصواتا ليلية تساعد على النّوم. ومع هذا كلّه، فإن «مساعد غوغل» يقع في خلط بين حين وآخر، ويقدم صورة واضحة عن «الذكاء الصناعي» الذي لا يمكن أن يلمّ بجميع الحالات، إذ يكفي أن تنقص نبرة من صوت، حتى ينحو بالتحليل منحى غير متوقّع تماما، وهنا تتجلّى مسألة «الوعي» أمام سؤال «الذكاء الصناعي»، ويظهر أنّنا لا يمكن لنا أن نصفه ب»الغباء»، لأن ذكاءه إنما هو منتج «النّقص» الذي يتعالى أمامه «الكمال». ختاما.. وليس في الإمكان إنكار التّقدم المذهل للتكنولوجيات الحديثة، ولا لأهميّة «الذّكاء الصناعي» في تسهيل حياة البشر، فالعالم عرف في العشريات الأخيرة تقدّما لم تتمكن منه آلاف السنين المنصرمة، غير أن «الانسان» يبقى المعجزة الكبرى بما حباه الخالق به من «وعي» لا يمكن أن تكتسبه الآلة حتى وإن بدا أنها على دراية بنفسها، ف»العواطف» التي تصطنعها، و»الأحاسيس» التي تعبّر عنها، إنما هي منتج ل»نقص» مسبق لا يمكن أن يضارع الكمال، وعلى هذا، لا ينبغي بناء حضارة كاملة على «كابل» قد ينقطع في أيّة لحظة، أو برمجية قد يصيبها خلل دون سبب معقول..