يحذر خبراء من أن استقرار الاتحاد الأوروبي يقف على المحك هذا الشتاء بسبب نطاق أزمة الطاقة التي تسببت بها الحرب الروسية في أوكرانيا. فعلى الرغم من أنه أعلن أخيراً عن خطط ترمي إلى جمع نحو 140 مليار يورو (أي 135 مليار دولار) من خلال فرض ضريبة على الأرباح غير المتوقعة المتزايدة التي تحققها شركات الطاقة، فإن المخاوف تظل قائمة، إذ ليس من الواضح بعد ماهية الإجراءات التي سيتخذها الاتحاد الأوروبي لمواجهة أسعار الغاز المرتفعة وإمداداته المنخفضة في الأشهر المقبلة. يشار إلى أن موسكو ردت على العقوبات التي فرضها الغرب عليها عقب غزوها لأوكرانيا بأن ضيقت خناق موارد الطاقة على الاتحاد الأوروبي ما لبثت أن شددتها الشهر الماضي عندما أغلقت خط "نورد ستريم 1″، وهو خط الأنابيب الرئيس للغاز الصادر إلى أوروبا. وفي حين تتعامل الحكومات مع الجانب السياسي الحساس الخاص بدبلوماسية الطاقة، يشعر المواطنون العاديون بقلق إزاء الفواتير الضخمة، التي تقوض قدرتهم على تدفئة منازلهم، وتجبرهم على التقنين في استخدام الطاقة، في حين تبحث الشركات الصغيرة في إمكانات استمرارها في العمل في ضوء [ارتفاع] التكاليف. وتخشى الحكومات أن تتحول هذه المخاوف إلى فتيل يشعل الغضب والاضطرابات في الشارع. فالوضع وصفة ممتازة لانفجار محتمل. وسط هذه المخاوف، سارعت الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي إلى ملء مخزون الطاقة لديها استعداداً للشتاء. في منتصف سبتمبر ، بلغت احتياطات هذه البلدان 84 في المئة، وهو مستوى يكفي لأشهر عدة من الاستهلاك. وتسعى هذه البلدان إلى إبرام صفقات دولية؛ هذا الأسبوع، سيوقع المستشار الألماني أولاف شولتز صفقات غاز مع ثلاثة بلدان خليجية. ومع ذلك، يمكن لشتاء قارس أن يحطم جدار أمن الطاقة الذي يجري بناؤه، وفق جوناثان ستيرن، الباحث المتميز في معهد أوكسفورد لدراسات الطاقة [يطيح أمن الطاقة وإجراءات ضمانه] . يقول: "ستتفاقم المشكلة إن حل الشتاء باكراً وبارداً. أي أن لفحة من البرد القارس في نوفمبر وديسمبر ستترك خلفها ثلاثة أشهر من الشتاء، في حين سنكون قد استخدمنا كمية كبيرة من مخزوننا. وهذا سيناريو سيئ حقاً". إذا حدث ذلك، ستتوقف كثير من التطورات على وفرة الغاز الطبيعي المسال على الصعيد العالمي، وهو شكل من أشكال الطاقة تتحول أوروبا إليه منذ بداية حرب أوكرانيا. ويشرح ستيرن أن ألمانيا قد تواجه الوضع الأكثر صعوبة هذا الشتاء، إذ تحاول برلين وقف اعتمادها على واردات الطاقة الروسية. وقد تتأثر بلدان في أوروبا الوسطى، مثل جمهورية تشيكيا وسلوفاكيا أيضاً تأثراً شديداً، بسبب اعتمادها على الغاز الذي يصدره الكرملين. وفي إطار الجهود التي تبذلها برلين لاستخدام مصادر بديلة للطاقة، تعمل حالياً على إنشاء محطات للغاز الطبيعي المسال، ومن المتوقع أن ينتهي العمل في أولى هذه المحطات نهاية العام الحالي. ويحذر ستيرن من أن مشاريع كهذه كثيراً ما تُستكمل متأخرة عن موعدها المحدد، ويضيف أن التأخير المحتمل قد يراكم مزيداً من الضغوط على برلين. ويفيد: "ليس من غير الوارد أن يتأخر الانتهاء من الأجزاء الضخمة والمعقدة من البنية التحتية لبضعة أسابيع أو حتى بضعة أشهر". وتتمثل المسألة الأخرى المطروحة أمام ألمانيا في الحصول على الغاز الطبيعي المسال لمعاملها الجديدة. فيضيف: "أمرت الحكومة الألمانية الشركات بإبرام عقود للحصول على هذه السلعة، لكن المشكلة تتلخص في أن توازن الغاز الطبيعي المسال على صعيد العالم ضيق للغاية". علاوةً على ذلك، تعد الفترة الراهنة مقلقة لبلدان أخرى أيضاً، بما في ذلك فرنسا، التي تنتج قدراً كبيراً من إمداداتها من الطاقة الكهربائية في محطات تعمل بالطاقة النووية. وأبلغ عديد من هذه المواقع عن انخفاض الإنتاج خلال الصيف، ما أثار مخاوف من وقوع نقص وانقطاع في التيار الكهربائي هذا الشتاء. في رأي ستيرن، من المفهوم أن يقول زعماء أوروبا لشعوبهم إنها ستتجاوز أزمة الطاقة هذا الشتاء. لكنه يحذر من أن هذا التقييم قد يثبت خطأه. "يطمئن الساسة الجميع إلى أن كل شيء سيكون على ما يرام، لأنهم لا يريدون أن يدب الذعر في النفوس، وهو أمر مفهوم إلى حد كبير. ربما هم محقون في ذلك، لكننا لا نعرف بعد إذا سيصدقون". كذلك يعتقد عادل الجمّال، الأمين العام للتحالف الأوروبي لبحوث الطاقة، بأن الأشهر المقبلة قد تكون صعبة للغاية على الاتحاد الأوروبي، لكنه يتوقع أن يكون العام المقبل أكثر صعوبة، بمجرد تضاؤل إمدادات منشآت التخزين. في الأجل القريب، يشكل إنفاق الأسر على الطاقة أكبر تهديد، وفق الجمال. "أعتقد بأن خطراً كبيراً يهدد استقرار الاتحاد الأوروبي. ستفوق الفواتير في أغلب البلدان قدرة الشعب على تسديدها إلى حد كبير بالنسبة إلى أغلب الأسر". (أعلنت المفوضية الأوروبية عن ضريبتها المقترحة على الأرباح غير المتوقعة بعد فترة وجيزة من محادثتنا). مثلاً، يشير إلى أن بلجيكا، البلد الذي يعيش فيه، يمكن أن تشهد وقوع 40 في المئة من سكانها في حالة فقر إذا لم تُتخذ خطوات جذرية للحد من ارتفاع فواتير الطاقة. وأفاد: "في غياب اتخاذ إجراء جذري، هناك خطر كبير يتمثل في سقوط شرائح كبيرة من المجتمع في براثن الفقر. وهذا يعني بطبيعة الحال اضطرابات اجتماعية وعدم استقرار سياسي، وهو ما من شأنه في أغلب الأحوال أن يصب في مصلحة الحكومات الشعبوية المشككة في الكيان الأوروبي". كذلك وجهت رئيسة صندوق النقد الدولي كريستالينا جورجييفا تحذيراً مماثلاً الأسبوع الماضي، إذ نبهت إلى أن أوروبا قد تتعرض إلى "بعض الاضطرابات الاجتماعية" إذا حل شتاء بارد. ويقول الجمال إن الاتحاد الأوروبي يحتاج لدرء هذا التهديد، والتوصل إلى إجماع على مستوى الكتلة حول كيفية التعامل مالياً مع الأزمة، بالطريقة نفسها التي تعامل بها مع جائحة فيروس كورونا. وكانت المفوضية الأوروبية اتخذت خطوة في هذا الاتجاه الأربعاء الماضي بإطلاق سلسلة من المقترحات سيناقشها وزراء الطاقة في 30 سبتمبر. وبموجب هذه الخطط يعتزم الاتحاد الأوروبي فرض ضريبة على الوقود الأحفوري على 33 في المئة من الأرباح الفائضة الخاضعة للضريبة لدى شركات الطاقة. وتريد بروكسل أيضاً فرض سقف سعري يساوي 180 يورو (نحو 161 جنيهاً) لكل ميغاوات ساعة على محطات الطاقة غير العاملة بالغاز التي ارتفعت عوائدها بسبب القفزة الجنونية في أسعار الكهرباء المربوطة بتكاليف الغاز. وإضافة إلى سد بلدان الاتحاد الأوروبي عجزها المالي بتدابير كهذه، من المتوقع أن تخفض استخدام الطاقة بنسبة خمسة في المئة خلال ساعات الذروة، في محاولة للحفاظ على مخزونات الطاقة. (على النقيض من بقية أوروبا، لا تدعو الحكومة البريطانية إلى خفض استخدام الطاقة، ولا تفكر في فرض ضريبة على الأرباح غير المتوقعة للشركات). يتمثل الإغفال الملحوظ في المقترحات التمهيدية التي أعدها الاتحاد الأوروبي في تحديد سقف عام لأسعار الغاز، فسياسة التحديد واجهت انتقادات من ألمانيا وهولندا والدنمارك، التي قالت إنها قد تجعل السوق الأوروبية أقل جاذبية للمنتجين الخارجيين. وأُهمل فرض سقف محدد لتكاليف الغاز الروسي في انتظار تقييم الاتحاد لآثاره. تعتقد كاتالينا سباتارو، مديرة معهد كلية لندن الجامعية للطاقة، بأن الإجراء الأخير يجب تطبيقه. تقول: "أعتقد بأن وضع سقف سعري [للغاز الروسي] يشكل ضرورة أساسية في شكل مطلق للمستخدمين المنزليين والشركات الصغيرة والمتوسطة. وبخلاف ذلك، ستنتهي بنا الحال في الأشهر المقبلة إلى مزيد من المشكلات"، وتجادل بأن معدلات البطالة سترتفع في النهاية نتيجة لانهيار الشركات. ويضيف الجمال، الذي يحمل الرأي نفسه، أن من الضروري أيضاً وقف تدفق الأموال النقدية إلى موسكو. "أعتقد بأن هذا يجب أن يحدث لسببين. أولاً، من شأنه أن يقلل من الضغط على السوق. والأمر الآخر هو أننا يجب أن نجفف بالسبل كلها تمويل الكرملين لهذه الحرب الرهيبة. وفي الوقت الحالي هذا ليس ما يحدث فعلياً، مع الأسف". لكن ستيرن، الأستاذ في جامعة أوكسفورد، يرى أن حديث الاتحاد الأوروبي عن تحديد سقف لسعر الغاز الروسي، وإن كان أخلاقياً، قد يكون قصير النظر، ذلك أن القارة ستظل في حاجة إلى الغاز الذي يصدره الكرملين طيلة الأعوام القليلة المقبلة. يقول: "لقد هاجمنا بوتين عن حق، واستنكرنا عمله، وأطلقنا عليه شتى النعوت. لكن المشكلة هي ما يلي: علينا رفع إمدادات الغاز الروسي إلى الحد الأقصى حتى نتجاوز فصلي الشتاء المقبلين أو فصول الشتاء الثلاثة المقبلة. "بطبيعة الحال، نريد معاقبة روسيا وخفض واردات روسيا من الطاقة، لكن هل نريد حقاً أن نجعل الأمور أكثر صعوبة بالنسبة إلى أنفسنا؟ ذلك أن هذا لن يساعد أوكرانيا حقاً". "سيولد الموقف ظروفاً أصعب لأوروبا… أخشى أن تحل لحظة، وقد بدأت تحل بالفعل في بعض بلدان أوروبا الوسطى، عندما يقول المواطنون: هل العقوبات ضرورية حقاً؟ ألن يكون من الأفضل تخفيفها والحصول على مزيد من الطاقة؟" وتفرض أزمة الطاقة في أوروبا أيضاً معضلة حول مستهدفات مكافحة تغير المناخ، مع اندفاع بلدان مثل ألمانيا إلى بناء بنية تحتية جديدة للوقود الأحفوري. يحذر شتيرن قائلاً: "من ينوي بناء منشآت ضخمة منتجة لغازات الدفيئة، بوسعه أن يودع مستهدفاته لعام 2030 على الأقل وربما مستهدفاته الخاصة بما هو أبعد من ذلك أيضاً". ويقول الجمال، رئيس التحالف الأوروبي لبحوث الطاقة، الذي يشجع البحوث في مجال حماية البيئة، إن حجم الأزمة يتطلب اتخاذ إجراءات عاجلة. "هل ينبغي لنا أن ننسى التدابير المناخية لبعض الوقت؟ هذا أمر قد ننظر فيه، لكن في ظل ظروف بالغة القسوة فقط. ولا بد من وضع ذلك في إطار قانوني، ليكون محدوداً زمنياً تماماً، وخاضعاً إلى مراقبة شفافة". وتقول سباتارو إن على أوروبا أن تسعى إلى تحقيق التوازن الصحيح بين أمن الطاقة والقدرة على تحمل التكاليف والاستدامة. وفي نظرها، يمكن تحقيق هذه الغاية على أفضل وجه بضخ الأموال في مصادر الطاقة المتجددة وتحسين كفاءة استخدام الطاقة من خلال تحسين العزل الحراري للمباني. وتقول: "إذا بذلنا هذا الجهد الآن فالجميع، أبناؤنا وأحفادنا، سيشكروننا. وبخلاف ذلك، سيقولون إننا لم نفعل شيئاً، وإننا تسببنا في إلحاق الضرر بهم على صعيد البيئة والموارد المالية على حد سواء". أندبندنت عربية