المسألة لم تعد خيالاً، فالبشرية تعيش على أعتاب الثورة الصناعية الخامسة التي ستركز على دمج التكنولوجيا الحديثة مع الذكاء البشري بشكل أكثر فاعليةً ممّا كانت عليه في الثورة الصناعية الرابعة، حيث يتوقع الباحثون أن تشهد هذه المرحلة تحولاً رقميا في الكثير من المجالات، مرتكزة في ذلك على تطوير تقنيات الذكاء الاصطناعي وإنترنت الأشياء والبيانات الضخمة، وكيفية توظيفها بشكل متوازن جنبا إلى جنب مع الإمكانيات البشرية في مجالات مختلفة بالاعتماد على تقنيات الاتصالات للجيلين الخامس والسادس. والفضاء السيبراني أيضا لم يعد كذلك كما ظهر في روايات الخيال العلمي في ثمانينيات القرن الماضي، فلم يعد بإمكان أي دولة تقيس مكانتها وإمكانياتها كقوة ذات نفوذ بالاعتماد على عناصر القوة التقليدية فقط، إذ باتت تحتم المعطيات امتلاك الدول قدراتها في المجال السيبراني، التي أزاحت العديد من عناصر القوة التقليدية من مكانها. فامتلاك الدول الأموال والثروات والقدرات العسكرية والجغرافيا الشاسعة وكثرة السكان، لم يعد كافيا لبلورة دورها كقوة فاعلة ومؤثرة وذات نفوذ في السياسات العالمية. اليوم تسعى كثير من الدول للحصول على القوة الإلكترونية، وهذه الأخيرة أصبحت تأخذ شكلاً جديدا في طبيعتها ووسائلها وأدواتها ومعطياتها ومؤشراتها، وبتنا نرى اليوم كيف أصبح الصراع الدولي يتّجه بالأساس نحو المغالبة والتنافس في ساحة الإنجازات التكنولوجية التي غيّرت من شكل النزاعات والحروب وأدواتها، وأثرت على الفاعلين فيها، وساهمت في إعادة التفكير في حركية وديناميكية الصراع. مؤخرا صدر عن مركز بيلفر للعلوم والشؤون الدولية بجامعة هارفارد مؤشره الوطني المحدّث للقوة السيبرانية لعام 2022 والذي يُختصر ب"إن سي بي آي" (NCPI)، وهو متابعة لمؤشره الذي سبق أن أصدره في عام 2020، حيث يصنف 30 دولة وفقا لقدراتها وإمكانياتها السيبرانية ويتكون من 29 مؤشرًا، بما في ذلك الهجمات الإلكترونية، وقوانين حماية البيانات، والمعايير الفنية، وحوكمة الإنترنت، والبحوث الإلكترونية، والجرائم الإلكترونية، والإنفاذ، واستخدام المعرفة المتاحة للجمهور عن القدرات الإلكترونية. يتم تقييم هذه المؤشرات عبر ثمانية أهداف تتلخص في الآتي: القدرة المالية، المراقبة، الاستخبارات، التجارة، الدفاع، مراقبة المعلومات والتدمير. المعايير. يقيس هذا نطاقا واسعا من نوايا الدولة وقدرتها في الحرب الإلكترونية والدفاع لتأثير الدولة في وضع القواعد والمعايير الفنية الدولية. ترتيب الدول القوية سيبرانيا حسب مؤشر القوة الإلكترونية الوطنية للعام 2022 جاء كالآتي: الولاياتالمتحدة الأميركية، الصين، روسيا، المملكة المتحدة، أستراليا، هولندا، كوريا، فيتنام، فرنسا وإيران. يتضح من الأرقام والمعطيات الواردة في المؤشر تقدّم روسيا على بريطانيا في المركز الثالث، وبينما بقيت الصين في المرتبة الثانية، قفزت أستراليا من المرتبة العاشرة في عام 2020 إلى المرتبة الخامسة في مؤشر هذا العام 2022؛ في حين تراجعت فرنسا ثلاث درجات من المركز السادس إلى التاسع. وسقطت ألمانيا وكندا واليابان من بين العشرة الأوائل. وكانت كوريا قد انتقلت إلى المراكز العشرة الأولى، حيث احتلت المركز السابع بعد أن كانت في المركز السادس عشر. أما فيتنام فانتقلت إلى المركز التاسع من المرتبة الثامنة عشرة؛ وإيران إلى المرتبة العاشرة بعد أن كانت في المرتبة الثانية والعشرين. الجدير ملاحظته أنه في تصنيف 2022، جاءت أوكرانيا في المرتبة 12 بعد أن حققت قفزة هائلة من المرتبة 29 في عام 2020، ويبدو أن الحرب في أوكرانيا ساهمت في زيادة المواقف لكل من روسياوأوكرانيا، وأدت إلى صعود روسيا وتفوقها على المملكة المتحدة في التصنيف العالمي. أحد أهم العناصر الرئيسية التي أشار إليها التقرير هو أن الولاياتالمتحدة الأميركية لا تزال تتربع على رأس القائمة الأقوى من حيث امتلاكها القوة السيبرانية، وقد احتلت مكانة بارزة لا مثيل لها في شؤون الفضاء السيبراني العالمية خلال الأعوام السابقة، ولطالما احتفظت واشنطن بتفوقٍ واضح على جميع البلدان الأخرى من حيث قدراتها في تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، وقد كانت الهيمنة على الفضاء السيبراني هدفا إستراتيجيا للولايات المتحدة منذ منتصف التسعينيات؛ وهي الدولة الوحيدة التي لها بصمة عالمية بارزة في كل من الاستخدامات المدنية والعسكرية للفضاء السيبراني، على الرغم من أنها تعتبر نفسها الآن مهددة في هذا المجال بشكل خطير من قبل الصينوروسيا. وعلى الرغم من أن القوة السيبرانية تساهم في تعظيم النفوذ والقدرات الاقتصادية والدفاعية والعسكرية والأمنية العالمية، فإن هذه القدرات غير متفق حتى الآن على سبل ونماذج عالمية لتقييمها بشكل فعّال كما هي الحال بالنسبة لنماذج ومؤشرات قياس القوة الصلبة. بعض مراكز التفكير العالمية طرقت باب البحث في القدرات السيبرانية للدول، وكيفية قياسها وتصنيفها (مثل أداة تقييم بناء القدرات التي وضعها البنك الدولي لمكافحة الجريمة السيبرانية، والتقرير السنوي حول النضح السيبراني الذي يصدر عن المعهد الأسترالي للسياسات الإستراتيجية، والرقم القياسي للتأهب السيبراني الذي يصدر عن معهد بوتوماك لدراسة السياسات العامة، وحتى نموذج نضج قدرات الأمن السيبراني الذي يصدر عن المركز العالمي لقدرات الأمن السيبراني بجامعة أكسفورد، والرقم القياسي العالمي للأمن السيبراني الذي يصدر عن الاتحاد الدولي للاتصالات، وكذلك إطار تقييم القدرات الوطنية الذي يصدر عن وكالة الاتحاد الأوروبي المعنية بالأمن السيبراني)، وفي ظني أن نموذج مركز بلفر للقوة الإلكترونية الذي أشرنا إليه سابقا هو النموذج الأكثر شمولية وأفضلها حتى الآن لقياس القدرات السيبرانية للدول. ما تتفق عليه معظم هذه النماذج، رغم ضبابية المشهد السيبراني، هو ترتيب الولاياتالمتحدة الأميركية ووضعها على رأس الهرم لتحتل المرتبة الأولى على مستوى العالم كدولة تتمتع بنقاط قوة رائدة في الفضاء السيبراني، حيث تمتلك قدرات هجومية أكثر تطورا من قدرات أي بلد آخر، بالإضافة لجميع الأسس الرئيسية من حيث قدرة استخبارات سيبرانية عالية الجودة وقيادة "تحالف العيون الخمس الاستخباراتي" المتقدم تقنيا، وقاعدة أكاديمية وصناعية سيبرانية قوية. ترتيبا على ما سبق، باتت القدرات السيبرانية مجالاً مهما لممارسة النفوذ وتحقيق التفوق والتنافس الدولي، فلم تعد ترسانات الأسلحة التقليدية هي المعيار الأساسي والوحيد لقياس القوة بعد الثورة المعلوماتية، وهذا يتطلب من الخبراء والدول اجتراح والبحث عن نماذج لقياس مؤشرات القدرات السيبرانية وتصنيفها كما هي الحال في جانب القوة الصلبة، لأن بناء أدوات تقيس قدراتها الإلكترونية بات حاجة ملحّة تساهم في فهم هذا المجال البالغ الأهمية لتحسين الإستراتيجيات الوطنية والسياسات الإلكترونية للدول، في ظل تصاعد المواجهة الدولية في فضاء أصبح جزءا من التفاعلات الدولية بعد أن توسعت وازدادت معدلات التهديدات وتزايدت الهجمات الإلكترونية بشكل كبير. الجزيرة نت