تعد الأسابيع الأخيرة على المستوى الدولي والإقليمي أفريقية بامتياز فقد بدأت بالأحداث الدامية والمؤسفة في السودان التي تبدو وكأنها عملية انتحار لأحد الشعوب وتدمير ذاتي داخل أحد الجيوش الأفريقية المهمة. ولقد شعرنا نحن العرب بحكم الجوار الأفريقي والتداخل التاريخي والارتباط الجغرافي بأن شيئاً خطيراً يحدث في القارة السمراء بعدما اقتحمت أطرافها تنظيمات متطرفة وجماعات إرهابية، إضافة إلى مجموعات عسكرية أقرب إلى الميليشيات حاولت وتحاول السيطرة على القرار السياسي فضلاً عن القرار العسكري في تلك الدول. يكفي أن نتذكر أنه خلال السنوات الثلاث الأخيرة حدثت ثمانية انقلابات عسكرية في غرب أفريقيا وحدها، وكان آخرها انقلابي النيجروالغابون، وهو ما يعني أن العدوى تنتشر وأن الخروج على الشرعية أصبح سمة سائدة نتيجة الشعور بالظلم من جانب بعض القوى الأوروبية الكبرى وفي مقدمتها الجمهورية الفرنسية، ولعل مبعث الاهتمام من جانبنا كعرب لما يدور في القارة السمراء هو ناتج من أكثر من سبب، أولها أن ثلثي العرب تقريباً يعيشون في الجناح الأفريقي للأمة في شمالها وشرقها وبعض أطرافها فضلاً عن التداخل التاريخي للمصالح ومصادر المياه والطاقة والعوامل الجيوسياسية التي تجعل الارتباط أقوى بكثير منه بين قوتين مختلفتين في الاتجاه، ولكنهما متفقتان في الهدف النهائي وهو رفض السيطرة الأجنبية والاتجاه للتحرر الوطني ومقاومة الاستنزاف الخارجي لمقدرات القارة ومواردها على كافة الأصعدة. الأمر الثاني هو أن كثيراً من دول القارة خصوصاً جنوب الصحراء تشعر بالحساسية تجاه الدول العربية في الشمال الأفريقي وانشغالها بمشكلات المشرق وفي مقدمتها قضية العرب الأولى القضية الفلسطينية، ولقد نتج من ذلك إحساس أفريقي بانسلاخ شمال الصحراء عن جنوبها بما يمكن أن يدخلنا فيه من نعرات عنصرية تتصل بالأعراق والأجناس وربما الديانات أيضاً. نتذكر اليوم ما طالب به الرئيس الكنغولي السابق موبوتو من ضرورة إنشاء منظمة أفريقية بحتة لدول جنوب الصحراء تكون متفرغة لشؤون الدول الأفريقية السمراء بعيداً من الاهتمام العربي الأفريقي في صراعات المشرق، وكان ذلك التفكير تحت مظلة منظمة الوحدة الأفريقية قبل أن تتحول إلى الاتحاد الأفريقي كما نشهد الآن، كذلك فإن بعض الصراعات العربية في الشمال الأفريقي خصوصاً في ما يتصل بالعلاقات بين الجزائر والمغرب تمثل هي الأخرى بعداً للشعور بأن مشكلات الشمال ذات خصوصية عن تلك التي يعاني منها الجنوب. لم يقف الأمر عند هذا الحد، بل نظن، وقد يكون بعض الظن إثماً، أن هناك عمليات استقطاب بين دول في الجنوب وأخرى في الشمال إذا اندلع صراع بينها، وأظن أن أزمة سد النهضة بين مصر والسودان وإثيوبيا، تعكس بشكل أو بآخر شيئاً من ذلك. بقيت نقطة جوهرية وأعني بها ما جرى في السودان خلال الأشهر الأخيرة وكيف تعرضت تلك الدولة الأفريقية الكبيرة، كمّاً وكيفاً، لانقسام حاد يكاد يمزق سلامتها الإقليمية ويطعن وحدة جيشها في الصميم في ظل حالة تمرد لجماعة من الداخل تكونت في ظل ظروف سابقة لتلك الدولة العربية الأفريقية المهمة، حيث توافد ملايين اللاجئين والنازحين داخل السودان وخارجه فراراً من المعارك الدامية والقذف الذي لم يتوقف منذ بدايته على نحو ينذر بالمساس بوحدة السودان وسلامة أراضيه، وكان الشيء المؤسف حقاً هو حالة الاستقطاب الدولي والإقليمي التي جعلت هناك مؤيدين لشرعية القوات المسلحة السودانية وآخرين داعمين للحركة المسلحة التي قامت بها قوات "الدعم السريع"، وكأنما كتب الله على القارة في هذا العام أن تشهد صراعات متداخلة في ظل ملابسات غامضة أحياناً. ويكفي أن نتأمل الدور الفرنسي، على سبيل المثال، تجاه دول غرب القارة، حيث تحمست ولو سراً لانقلاب الغابون، بينما رفضت بشدة ما جرى في غضون انقلاب النيجر، فالمصالح الذاتية للدول الكبرى هي التي تحكم طبيعة الدعم الذي يؤدي إلى الانفجارات الثورية والانقلابات العسكرية، وليس بعيداً منا ما جرى في دول أخرى منذ الزحف القبلي في صحراء مالي، حيث أصبحت منطقة الصحراء الكبرى مسرحاً لعمليات تؤثر بشكل مباشر في وحدة القارة وسلامة أراضيها، بل إن هناك محاولات متعددة للغزو الخارجي تجاه دول القارة. ولا يغيب عن الأذهان أن هناك جماعات شبه عسكرية، بل وتنظيمات إرهابية تسعى للنيل من الاستقلال الوطني للدول الأفريقية والعبث بمقدراتها، فالذين يتخوفون من انقلاب النيجر هم أولئك الذين يسعون إلى رصيد ذلك البلد من مادة استراتيجية هي اليورانيوم، وتأثير ذلك بمستقبل المنطقة في ظل التكالب الأجنبي على دول القارة بدءاً من الوجود الصيني والهندي والأميركي والبريطاني والفرنسي معاً إلى جانب الشهية الجديدة لروسيا الاتحادية في المنطقة، حتى أن بعض ضباط الانقلاب في النيجر رفعوا في اليوم الأول لهم أعلام موسكو كأنما هي إشارة للصراع المكتوم بين القوى المختلفة على الأرض الأفريقية. بينما تقف وراء انقلاب الغابون أسباب في مقدمتها ترهل النظام السياسي لعائلة بونجو التي حكمت البلاد لأكثر من نصف قرن وبددت جزءاً كبيراً من ثروة النفط على نحو لا يعود بفائدة مباشرة على شعب الغابون، الذي لا يملك مقدراته على النحو الذي يريده، ذلك الشعب الأفريقي الذي تلامس حدوده عدداً من دول الجوار التي تجعل العدوى للانقلابات في غرب القارة أمراً وارداً، حيث الجيوش النظامية حديثة العهد بالسلطة وترى أن مصلحة الدعم أقوى من نصوص الدستور في بلادها، ولعلي أطرح الآن الملاحظات الثلاث التالية: أولاً: إن العرب مطالبون باتخاذ مواقف أكثر إيجابية تجاه القارة الأفريقية وظروف دولها المعقدة والمتشابكة في الوقت نفسه، كما أن الشراكة العربية الأفريقية يجب أن تمتد لتكون مظلة للمصالح المشتركة بين الجانبين، كذلك فإن العلاقة بين جامعة الدول العربية والاتحاد الأفريقي يجب أن تظل على تواصل دائم للمساعدة في حل مشكلات القارة دون تركيز على القضايا العربية وحدها، لأن الأفارقة شديدو الحساسية تجاه بعض المراحل في التاريخ المشترك للمنطقة، حيث لعب الاستعمار الأجنبي بورقتين كبيرتين، أولاهما بريطانية الصنع وهي التي تدور حول سياسة فرق تسد، والثانية تدور حول الاحتواء الثقافي مثلما جرى في السياسة الفرنسية التي اتبعتها باريس تجاه مستعمراتها في شمال وغرب أفريقيا. ثانياً: إن الحديث عن الانقلابات العسكرية في القارة الأفريقية يثير قضية الاستقرار السياسي في دول القارة وأهمية الدعم المستمر للمساعدات الفنية والمادية لدولها، حتى تشعر بأن العرب جادون في التعاون المشترك والدعم الدائم لدول القارة، خصوصاً تلك التي تعاني الفقر ونقص الموارد، كما أن العرب يجب أن يتوقفوا عن تصدير مشكلاتهم لدول القارة لأن فيها ما يكفيها، فالخلاف الجزائري المغربي على سبيل المثال لا ينبغي أن يكون سبباً للانقسام بين دول القارة ومقدراتها المختلفة حتى لا ينعكس ذلك على الاتحاد الأفريقي، والأمر ذاته ينسحب على أزمة سد النهضة والخلاف بين مصر وإثيوبيا في هذا السياق. ثالثاً: إن موقف الولاياتالمتحدة تجاه الأوضاع في غرب أفريقيا لا يتوافق بالضرورة مع الموقف الفرنسي على رغم انتمائهما المشترك للمجموعة الأوروبية بكل ما لها وما عليها، ولا تزال باريس تتذكر بمرارة أن علي عمر بونجو الرئيس الذي أطاحه انقلاب الغابون كان قد خرج على الدائرة الفرنسية واقترب من مجموعة الكومنولث البريطانية في حركة غير محسوبة دفع ثمنها في الانقلاب الأخير. دعونا نتذكر معاً أن أفريقيا كيان مهم بالنسبة إلى العرب، وأنها امتداد طبيعي للمكون السكاني في المنطقة، وأن التعاون بين الجانبين أمر يحتمه التاريخ، وتعززه الجغرافيا، ويستدعيه المستقبل. أندبندنت عربية