أياما قليلة بعد انقلاب النيجر نشهد انقلابا جديدا في الغابون، ما يطرح استفهامات كثيرة حول ما يحدث في إفريقيا وكيف يمكن تفسيره، فبالاستناد على التفسير الديمقراطي نحن أمام موجة انقلابات عسكرية تستهدف الاستحواذ على السلطة من طرف الجيش. ويقابل الانقلابيون هذا الطرح بمبررات عديدة منها استحالة نقل السلطة بطرقة سلسة وعدم تمكين الوصول إليها عن طريق الانتخابات، استمرار رؤسائها لفترة طويلة وسيطرتهم على مفاصل الدولة وربطهم علاقات دولية متشعبة تضر بالمصلحة الوطنية التي يرجع تقديرها دائما إلى المؤسسة العسكرية باعتبارها الضامن للسيادة واستمرارية الدولة. أما إذا ما استندنا على التفسير العقلاني المستند إلى الواقع الإقليمي والدولي، فإن الانقلابات في إفريقيا أضحت شكلا من أشكال التخلص من التبعية الاقتصادية والتواجد العسكري الأجنبي، بما أعطاها شرعية شعبية جعلت الشعوب تحتفل بالانقلابات كاحتفالها بالاستقلال بعد موجة التحرر الوطني في الستينات. وبين هذا وذاك انقسمت المواقف الإقليمية بين مؤيد يبرر فعله الذي سبق أن مارسه ومعارض متخوف من امتداد الموجة نحوه، ومواقف دولية التزمت الحذر والتحفظ كالصين وروسيا وأخرى مارست وتمارس كل أنواع التهديد والضغط نظرا لارتباطها العضوي بالمنطقة والمتمثلة في فرنسا ومن ورائها الاتحاد الأوروبي، بما جعل مناقشة المسألة الدستورية والديمقراطية بمثابة البحث عن مبرر لاستمرار الخيانة والتبعية، وتبرير الانقلاب ضرورة لمسايرة الشعوب الباحثة عن حريتها. فالغابون لم تعرف منذ استقلالها عام 1960 سوى ثلاثة رؤساء، إمبا إلى غاية 1967 وتميزت فترته بانقلاب غريمه جون هيلار اوبام في 1964 الذي دام يومين حال دون استمراره تدخل القوات الفرنسية التي أنقذت إمبا ومدير مكتبه عمر بونغو، وكانت هذه المحطة هي التي أعادت قطار الغابون إلى سكة مستعمره الفرنسي الذي فرض بونغو وعائلته على تاريخ الغابون بداية من سنة 1967 إلى غاية صائفة 2023 لتتولى كعائلة حاكمة رعاية المصالح الفرنسية في الغابون وإقليم وسط إفريقيا، مقابل ضمان فرنسا الودائع المالية للعائلة في أوروبا. وخلال الفترة الطويلة نسج بونغو علاقات متشعبة ابتدأها بعلاقته بالملك فيصل الذي أقنعه بالدخول إلى الإسلام وتبني الموقف العربي في أزمة البترول عام 1973، لكنه سرعان ما سقط في فخ لوبيات إقليمية تتولى استنزاف الثروات الباطنية للغابون، ثم أنتجت صداقته مع العائلة المغربية انغماسه هو وابنه من بعده في التجارة غير الشرعية للمعادن الثمينة وتجارة المخدرات وتبييض الأموال من خلال فرع البنك التجاري المغربي المعروف في الغابون بالاتحاد الغابوني للبنك واستثمارات الاتصالات من خلال مغرب تيليكوم. وبمنطق ملكي استمر حكم العائلة وترك انطباعا لدى الشعب الغابوني والمجتمع الدولي بعدم إمكانية الدخول إلى الغابون إلا عبر بوابة بونغو أو حلفائه الملوك كمحمد السادس ودائرته العربية كالإمارات والبحرين، الذين وظفوا الغابون في حملة شرسة ضد الجزائر لصالح إسرائيل في أروقة الاتحاد الإفريقي، وأضحى الكلام عن العلاقات بين العائلات لا بين الدول في هكذا حالات، لأن محمية الملك وظفت أجهزة الدولة المغربية كواجهة لخدمة مصالحها ونفوذها وسهلت تواجد الملك محمد السادس في الغابون باستثمارات عائلية ومكان استراحة ونزهة له يتاح فيها كل الممنوعات القادمة من أمريكا اللاتينية. والملاحظ في الإعلام الدولي هو الحملة الشرسة ضد رئيس المجلس الانقلابي برايس اوليغي واتهامه بالثراء الفاحش الناجم عن بيع المخدرات وإشرافه على استثمارات عائلة بونغو، والقصد منها هو تشويه الانقلاب العسكري لكي تنزع منه الشرعية ويسهل الانقضاض عليه بخطة فرنسية-مغربية تعيد حليفهما الاستراتيجي إلى سدة الحكم أو إنقاذه من أيدي الانقلابيين مثلما تم إنقاذ أبيه عمر بونغو في انقلاب 1964. فالمصالح الاقتصادية بين فرنسا والمغرب في الغابون مشتركة، فأسهم بنك التجاري هي أسهم بنك ليون سابقا واستثمارات المغرب المالية لم تتم دون موافقة البنك المركزي الفرنسي الذي يتولى إدارة الشؤون المالية لدول وسط إفريقيا من خلال عملة الفرنك الإفريقي. وبين حملة دولية باسم الديمقراطية تقودها فرنسا وحملة لوبيات تتزعمها المغرب سيكون مصير الغابون بين المطرقة والسندان، لكن إرادة الشعوب في النهاية ستنتصر لأن الانقلابيين ليس لهم شرعية إلا بمخالفة ما كان يسير عليه بونغو وإلا فسيكون مصيرهم نفس مصير سلفهم. وهذه المعادلة إذا تحققت فهدفها تقزيم دور الشعب والوصول إلى تسويات سياسية تضمن مصالح اللوبيات وتقتسم على إثرها السلطة، لكن ما يطرح التفاؤل هو أن مناعة الشعوب تجاه الصفقات وصلت مرحلة مناعة القطيع، فالتجارب المتكررة سمحت بنجاح رواندا التي تخلصت من اللوبيات واستطاعت أن ترتقي باقتصادها وبالمستوى المعيشي لسكانها وأصبحت نموذجا في إقليم وسط إفريقيا خارج المجموعة الفرنكفونية، ودولة إفريقيا الوسطى رغم أنها مازالت تعيش تجاذبات الأزمة السياسية وتدفع فاتورة طردها للقوات الفرنسية. ينتظر المجتمع الغابوني رد فعل المجموعة الاقتصادية لدول وسط إفريقيا على الانقلاب، التي من المؤكد أنها لن تطالب بالتدخل العسكري مثل الإيكواس، فمقر التجربة التكاملية التي كانت بناء إقليمي استعماري استكمل بعد استقلال دوله "سيياك" CEEAC يقع بالعاصمة الغابونية ليبرفيل، وCEMAC تجمع إقليمي يستوعب الدول غير الفرنكفونية وهو مرتبط بالاتحاد الإفريقي كتجمع إقليمي يمثل إقليم إفريقيا الوسطى، بالتالي فإذا كان الضغط فرنسيا فسيكون عبر "سيياك" وهذا غير متاح بفعل أن الغابون حلقة مركزية في المجموعة وإذا كان الحل عبر الاتحاد الإفريقي سيكون عبر CEMAC وستتدخل فيه دول تعارض التدخلات الأجنبية العسكرية والسياسية وخصوصا رواندا وإفريقيا الوسطى، وما حدث يوم الخميس في الكونغو كينشاسا من احتجاج ضد تواجد القوات الأممية يوحي بأن إقليم إفريقيا الوسطى يعيش هو كذلك موجة الرفض الشعبي للتواجد الأجنبي بكل أشكاله. إلا أن هناك فرضية يمكن أن تتحقق وهو طرح المملكة المغربية مبادرة تسوية (منافسة للمبادرة الجزائرية في النيجر)، يتم من خلالها توظيف فواعل محلية وشراء ذمم لتأمين استثماراتها ومصالحها وإنقاذ علي بونغو وسحب أمواله نحو مراكش وإذا صدقت هذه الفرضية ستتبين طبيعة توجهات المجلس الانتقالي ومدى صدق طرحه في رفض الفساد وإقامة نظام سياسي يخدم مصلحة الشعب الغابوني. وفي هكذا وضع تبرز الحاجة إلى الاتحاد الإفريقي الذي سعى منذ نشأته للعمل على نهضة إفريقيا وتطورها وضمان الاستقرار في دولها، وأشرف على تنصيب مجالس أمن وسلم في كل إقليم فرعي وحاول تشكيل القوة الجاهزة لمواجهة التحديات العسكرية، إلا أن هذه المبادرات لم تستطع تغيير الواقع المرير الذي تمر به إفريقيا والأسباب معقدة ومتشابكة لكن العامل الرئيس هو التواجد الأجنبي في دولها، فعدد القواعد العسكرية الأجنبية أكبر من عدد المصانع الكبرى والشركات الأجنبية وظيفتها استخراجية تستنزف خيرات الأراضي وتعيث فسادا. ورغم محاولات بعض الأقطاب الإقليمية في الاتحاد الإفريقي تشكيل كتلة تنموية تدافع عن مصالح القارة في المحافل وتتفاوض مع المؤسسات الدولية والشركات بشكل عادل إلا أن اللوبيات زرعت في كل مفاصل العمل المشترك ووظفت شخصيات ودولا لإفشال أي محاولة جادة، وكانت إثارة النزاعات الداخلية والإقليمية هي عنوان هذه اللوبيات الدائم، فالسودان بعدما انقسم إلى دولتين لم تتوان في محاولة تقسيمه من جديد بافتعال نزاع ضد القوة الممثلة لإقليم دارفور، والصحراء الكبرى رسمت الجماعات الإرهابية معالم حياتها اليومية، فأينما ثارت منطقة ضد فرنسا أعلن عن تأسيس جماعة "جهادية" تستهدف الدولة ثم تشرع فرنسا في مواجهتها لتبرير وجودها. إن الحل يكمن في التعامل مع الواقع الإفريقي وألا يتردد الاتحاد في الاشتراك في عمليات نظمية وخوض حرب رسمية في أي جزء من القارة من أجل تحريرها والحفاظ على كرامة الإنسان فيها وهذا ما يتبناه الدور الإقليمي للجزائر كصانع للتنمية والاستقرار، فطرح الجزائر لمبادرة تسوية يعتبر سابقة في النزاعات المسلحة/غير المسلحة، فالحل السياسي الذي عالجت به الجزائر أزمتها في 2019 وحفاظها على دماء الجزائريين منحها مصداقية دولية ونموذجا يحتذى به في إدارة الصراع السياسي الداخلي دون تدخل أجنبي غربي أو أممي مهما كانت صفته أو دوره، وهذا ما يستوجب تسويقه وتعميمه لمعالجة الأزمات الإفريقية. ولعل المساهمات الجزائرية في العديد من التجارب كتونس وليبيا ومالي منحتها مكانة ريادية ومؤهلات يجب أن تستثمر فيها، خصوصا أنها لا تتعارض مع مبادئ السياسة الخارجية الجزائرية القائمة على عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول. والطرح الجزائري لقضية النيجر عقلاني، فالانقلاب أصبح أمرا واقعا يجب التعامل معه ابتداء برفض التدخل العسكري غربيا كان أو إقليميا (الإيكواس) ثم بمعالجة مشكلة النيجر عن طريق الحوار الداخلي بمجلس انتقالي لا تتجاوز فترته ستة أشهر مع تنسيق إقليمي بين دول الجوار لتفادي أي انزلاق. أما بخصوص التواجد الأجنبي العسكري ممثلا في القواعد العسكرية الأمريكية والفرنسية، فالقرار فيه يعود إلى المجلس الانتقالي ثم إلى السلطة المنتخبة فيما بعد وهو وحده من يقرر داخل حدود بلده، ورغم محاولة فرنسا نفي طلبها من الجزائر فتح مجالها الجوي إلا أن هذه المحاولة كانت تهدف إلى ضمان الموافقة الضمنية للجزائر على التدخل، فإذا سمح الجار للغريب بالمرور فالعيب في الجار لا في الغريب وهذا ما يفقهه صانع السياسة الخارجية الجزائرية بشكل جيد. وبنفس المنطق فالجزائر كدولة ذات طبيعة مسالمة وتسعى إلى طرح الحلول وتقديم البدائل إذا طرح الملف الغابوني في الاتحاد الإفريقي سيكون للجزائر كلمتها وتصورها للقضية، ورغم حالة الاستعداء الواضحة من طرف علي بونغو سابقا للجزائر إلا أن الجزائر مدركة أن الغابون أكبر من بونغو، والشعب الغابوني واع لطبيعة التحالفات التي كان يبنيها بونغو، ولو كان لبونغو شعبية انتخابية تتجاوز 60% كما يدعي لما خرج محتفلا بإسقاطه ونهاية حكم العائلة. إن تاريخ دولة ما بعد الاستعمار في إفريقيا مخضب بدماء المواطنين الصالحين الذي يكافحون من أجل نهضة دولهم وتحررها الاقتصادي مثل أسلافهم الذين ضحوا بالغالي والنفيس من أجل تحرير أوطانهم، والغابون عانى ويلات الاستعمار الفرنسي ولا يزال يعاني من ارتباطه الاقتصادي بالبنك المركزي الفرنسي ورغم الإمكانيات الهائلة التي يحوزها كبلد نفطي يعيش ثلث شعبه الفقر المدقع بفعل السياسة الفرنسية. ما يحتم في النهاية على ضرورة أن تكون الحلول إفريقية وأن نشهد تكاملا اقتصاديا نستعيد به تاريخ العلاقات الاقتصادية الكبيرة بين شمال القارة ووسطها وغربها، فطريق الملح وطريق الذهب لم يكونا أقل جاذبية من طريق الحرير وإحياء الصين لطريقها يدفعنا لإحياء طرقنا حتى نضمن مستقبل الأجيال القادمة. * رئيس قسم العلوم السياسية بجامعة تيزي وزو