أعاد الانقلاب الأخير في دولة بوركينافاسو، إلى الأذهان ممارسة كانت سائدة بقوّة في ستينيات القرن الماضي، وفي هذا السياق، يقول الباحث في العلاقات الدولية نبيل كحلوش، إن الانقلاب الجديد فتح المجال لطرح جدليتين هيمنتا على النقاش السياسي وهما: لماذا توالت الانقلابات العسكرية في بوركينافاسو؟ وهل أصبحت التغييرات غير الدستورية للسلطة، جزءا لا يتجزأ من ممارسة السياسة في إفريقيا؟ - «الشعب»: ماهي قراءتكم للانقلاب العسكري في بوركينافاسو؟ الباحث نبيل كحلوش: ما حدث قبل أيام في بوركينافاسو، هو قيادة الضابط «ابراهيم تراوري» (34 سنة) لانقلاب على السلطة العسكرية. ومعروف عن هذا الضابط أنه كان مشاركا في عمليات عسكرية بدولة مجاورة، وتلقى تكوينا أيضا في سلاح المدفعية بالمغرب. ورغم أن الحجة الأساسية لمخططي الانقلاب، هي أن القيادة السابقة فشلت في محاربة الإرهاب، حيث ارتفعت نسبة التوتر في هذه الحرب اللاتماثلية منذ سنة 2015م، وهي نفسها الفترة التي ازداد فيها حجم التهديد الإرهابي بمنطقة الساحل. أما بخصوص الظروف المحيطة بالانقلاب العسكري في بوركينافاسو فيمكن إجمالها كالآتي: الظرف الأمني: تعيش هذه الدولة على وقع توتر داخلي بين الجماعات الإرهابية والقوات العسكرية الرسمية، إضافة إلى الجدل الذي يحوم حول تواجد القوى الأجنبية على أراضيها. الظرف الاقتصادي: يشهد اقتصاد دولة بوركينافاسو حالة من الفشل، حيث لا يتجاوز إجمالي الناتج المحلي 20 مليار دولار، مع انهيار كبير للعملة والتي ما تزال هي نفسها عملة المستعمرات الفرنسية (سيافا)، أين يساوي الدولار الواحد أكثر من 600 سيافا. إضافة إلى انعدام سياسة اقتصادية بإمكانها تنويع المداخيل التي لا تزال في معظمها معتمدة على الزراعة المحلية دون نشاط صناعي أو اقتصاد خدماتي وصناعات تحويلية أو استخراجية رغم كل ما تزخر به هذه الدولة من ثروات باطنية، وموقع جغرافي يؤهلها للتعامل مع اقتصاديات كبيرة قريبة منها في غرب إفريقيا كنيجيريا وكوت ديفوار. ماذا عن الظروف الإقليمية؟ وكيف أثرت على الوضع السياسي الداخلي في بوركينافاسو؟ تتواجد بوركينافاسو وسط ست دول تشاركها الحدود، وهي كل من: النيجر ومالي وغانا وتوغو وكوت ديفوار وبنين، والمؤشر المشترك بين أغلب هذه الدول هو التوتر الإقليمي، إذ تعاني النيجر ومالي من عدم الاستقرار الأمني، أما غانا وتوغو وكوت ديفوار، فبينها توترات، ما يجعل التكامل الأمني والاقتصادي بين هذه البلدان شبه منعدم رغم كونها تنتمي معا إلى المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا «إيكواس» والتي يناهز إجمالي ناتج بلدانها 700 مليار دولار سنويا كثاني أكبر ناتج إقليمي بعد دول شمال إفريقيا (مصر والسودان وليبيا وتونس والجزائر والمغرب والصحراء الغربية، وفق تصنيف البنك الدولي للأقاليم). وعليه، فقد وجدت بوركينافاسو نفسها وسط إقليم معقد ومربك يعاني من هشاشة أمنية تجعل بلدان دول الساحل تتساقط كأحجار الدومينو في اللعبة الأمنية التي تتلاعب باستقرار هذه الدول. - هل نفهم أن ما حدث في بوركينافاسو هو حالة منعزلة؟ أم لها امتدادات وعلاقة بانقلابات متزامنة؟ التدخلات الأجنبية بدّلت الممارسة الديمقراطية القائمة على نتائج صناديق الاقتراع إلى الاحتكام إلى السلاح والانقلابات العسكرية. وللدلالة على ذلك، يمكننا تقديم رقم مهول لعدد الانقلابات في فترة زمنية قصيرة، وهي بين 1966 و1977، أين شهدت إفريقيا أكثر من 100 انقلاب عسكري في عقد واحد تقريبا بمعدل يقارب 10 انقلابات سنويا. ومنذ ستينيات القرن الماضي إلى اليوم، وقعت أكثر من 200 عملية انقلابية، مما يعني أن إفريقيا تشهد معدّلا يساوي أكثر من 3 انقلابات سنويا، الأمر الذي جعل هشاشة الدول في إفريقيا تزداد أكثر فأكثر، حتى أن تقريرا لمؤشر هشاشة الدول صدر في بداية 2022، تحدث عن تصدّر 15 دولة إفريقية لقائمة أكثر الدول هشاشة في العالم، مما يعني أن أكثر من 25% من دول القارة هي دول هشة. بنظركم ما هي الأسباب التي جعلت ظاهرة الانقلابات تتجذّر بهذا الشكل في السياسة الإفريقية؟ على العموم يمكن إدراج بعض أسباب هذه الظاهرة (القارية) كالآتي: حداثة تجربة الحكم المعاصر عند الأفارقة بعد تجربة الاستعمار، وتبعية بعض النخب المحلية لأطراف دولية أغلبها ذو تاريخ استعماري في المنطقة، وسيطرة الفكر القَبَلي والعرقي على حساب الفكر الوطني والقومي، إضافة للتدخلات السلبية للأطراف الغربية، والصراع الاقتصادي على الموارد المكتشفة، إلى جانب عدم قدرة المنظمات الإقليمية على التدخل الفعال وتحجيم الصدامات وحل الأزمات. كل هذا وأكثر، يجعل الانقلاب الأخير في بوركينافاسو لا يفتح الجدل على المستقبل السياسي لهذه الدولة فحسب، بل على ظاهرة الانقلاب في إفريقيا ككل وسر ارتباطها الوطيد بالممارسة السياسية عند الأفارقة. هل هناك جهود محلية لصدّ هذه الظاهرة التي تعطل مسارات التنمية والاستقرار؟ نعم، فبالرغم مما يحدث، إلا أن دولا إفريقية رائدة حاولت أن تدفع باتّجاه التحكّم في هذه الظاهرة، وعلى رأسها الجزائر التي احتضنت في 1999 قمة إفريقية عالية المستوى، وتعهد حينها الرؤساء الأفارقة بعدم الاعتراف بأي سلطة عسكرية صاعدة للحكم بواسطة انقلاب.. مما جعل عدد الرؤساء العسكريين في القارة محصورا بتسعة فقط عند مطلع الألفية الجديدة بعدما كان العسكريون في بداية الثمانينيات يشكلون أكثر من 70% من رؤساء القارة موزعين على أكثر من 40 دولة، ومع ذلك، لم يصمد هذا التعهد طويلا وبالأخص في دول ما وراء الصحراء الكبرى، أين تقع الكثير من الدول تحت حكم عسكريين وصلوا إلى السلطة بالانقلابات. هل هناك مؤشرات تبعث الأمل بمستقبل أفضل للسياسة في إفريقيا بعيدا عن شبح الانقلابات؟ نعم هناك مؤشرات راهنة تثبت بأن الدول الإفريقية لن تستمر على هذا النهج طويلا باعتبار أن الأجيال الجديدة التي ستنفتح على تكنولوجيا المعلومات ورؤية العالم بمنظار جديد، إضافة إلى التغيرات الحاصلة في نسيج العلاقات الدولية، وزيادة تحركات المنظمات الإقليمية والدولية مع ارتفاع عددها، ستجعل من السياسات المحلية في القارة مضطرة إلى التعامل بمناهج معاصرة بعيدة عن منطق الانقلابات العسكرية.