لكن مع التطور الحاصل في مختلف المجالات والأصعدة وما أفرزته ثورة التكنولوجيا، أصبح الإنسان يجسد ما تراه مخيلته حتى وإن لم يكن ذلك التجسيد من صلب الواقع، فظهرت أفلام الرعب بطريقة مثيرة وهي أقرب للواقعية مع المخرج البريطاني الشهير (ألفريد هيتشكوك)، وما إن أصبح لهذا النوع من الأفلام جمهوره الخاص حتى تسارعت شركات الإنتاج لتقديم ما يمكن تحقيقه من إيرادات، وساعدها بذلك أن أفلام الرعب عادة ما تكون ميزانياتها غير باهظة مثلما يحدث للإنتاجات الأخرى، ومع التقدم التقني الهائل بدأ السينمائيون يوظفون التقنيات الحديثة في خدمة مخيلتهم للصور التي يصنعونها.ومن هذه النماذج نستعرض فيلم (الطوابق المظلمة) الذي عرض ولا يزال في صالات الدوحة السينمائية، وهو إنتاج يحسب للسينما الفنلندية. يعتمد الفيلم على شخصية الصبية سارة المصابة بمرض التوحد، والتي تجرى لها فحوص وعلاج في أحد المستشفيات بصحبة والدها (بين) الذي مثله (نواه هينتلي)، وبعد أن يصاب بحالة من الجزع نتيجة عدم جدوى الأجهزة الفاحصة وحالة التوتر التي تصيب ابنته سارة ورغبتها بالخروج إلى المنزل، يحسم أمره ويقرر إخراجها، وعندما يدخل المصعد بصحبة الممرضة (إيميلي) التي تحاول جاهدة إقناعه بالعدول عن مسعاه، يدخل معهم إلى المصعد رجل أمن ورجل أعمال، وتوبياس، وهو شخصية مهمة في تواجدها مع تلك المجموعة، وما إن يهبط المصعد من الطابق السابع حتى يتوقف بخلل كهربائي مع أصوات غريبة، تحدث في الخارج، يحاول رجل الأمن والآخرون جاهدين الخروج من المصعد، وينجحون بعد أن واجهوا وحشا غريب الشكل يحاول قتلهم، وفي طابق آخر يعثرون على بعض الجثث ويرون حالة من الفوضى التي عبثت بذلك الطابق، يحاولون الخروج من السلالم الخلفية فيجدون أبوابها قد أغلقت بإحكام، يستمر الوحش بمطاردتهم مصحوبا بجلبة صوتية مرعبة، ويدخلون طابقا آخر وتزداد الأمور تعقيدا حيث يظهر لهم وحش آخر بهيئة شبح، وتتعطل كل أجهزة الاتصال، وبسبب التركيز على نظرات سارة يدرك المشاهد مدى العلاقة الخفية بين وجود سارة وتلك الوحوش التي أصرت على ترك سارة لهم مقابل نجاة الآخرين، ويبدأ صراع بين والد سارة -تساعده إيميلي- من جهة، وبين رجل الأعمال الذي يريد "النفاذ بجلده" والخروج.. تتوالى أحداث الرعب ويقتل رجل الأمن وكذلك رجل الأعمال وإيميلي، أما توبياس فهو كالميت الحي، يجدون جثته وكأن أياما مرت على وفاته، لكنه يصحو فيما بعد لينقذ الطفلة سارة بعد أن يتقاتل مع الوحش ويموت الاثنان.. تبقى سارة ووالدها "بين" الذي يسعى لإخراج ابنته، لكن وحشا ضخما يطارده في قبو البناية، ويحصل الوالد على سيارة إسعاف محاولا الخروج بها، لكنه يفشل، ومع أن سارة تحاول إنقاذ أبيها من خلال تعاملها الحسي مع الوحش، فهي الوحيدة التي لا يؤذيها ذلك الوحش الجبار، وفي هذا المشهد تحديدا تتردد عبارة مهمة: (النور لا يعيش في الظلام)، وهذه العبارة التي ركز عليها المخرج تحمل عنصرين متناقضين بل ومتضادين، فلا الظلام يحتمل النور ولا النور يحتمل الظلام، ربما هذا الهدف الأساسي والمهم الذي كان يقصده من خلال الصراع الذي شاهدناه بين أب طيب ومخلص يحاول إنقاذ ابنته وإخراجها من ظلمات الحالة المرضية التي تعيشها، وبين قوى ظلامية تريد الاستحواذ على تلك البنت التي تشكل رمزا للطفولة والبراءة والنقاء، حتى لو كلف ذلك قتل من يقف في طريقهم وبطرق وحشية وبشعة. في المشهد الأخير أعاد المخرج نفس المكان في المشهد الأول، حيث الطفلة سارة ووالدها وطاقم المستشفى ونفس الأشخاص الذين ظهروا في المشهد الأول، لكن ما ميز المشهد الأخير هو عبارة توبياس لسارة حينما مر بها وقال (لم أعد أشعر بالبرد)، بينما في المشهد الأول ذكر لها بأنه يشعر بالبرد كدلالة على حالة الاحتضار التي أحس بها، كما أن المشهد الأخير اختلف عن الأول باستخدام "الفلتر الأبيض"، حيث أضفى صورة ضبابية لما بعد الموت، وكأن المخرج أراد بتلك الرمزية أن يقول بأن جميع الذين قتلوا على أيدي الوحوش التقوا ثانية بنفس المكان والأحداث، لكن باختلاف الزمن. نجح المخرج (بيتي ريسكي) في توظيف الكمبيوتر وإمكاناته في الخيال المرئي حين أظهر صورة الشبح بهيئة وحش، وكذلك تصوير حالة الدمار الهائل الذي يحدثه الوحش في الجدران والسقوف، معززا ذلك بالموسيقى القوية والمؤثرات الصوتية وكذلك الصورية خصوصا في حالة الانعكاسات الكهربائية السريعة وما يسبق ظهور الوحش، كما أنه نجح بشكل كبير في تحريك الكاميرا وفي اختياره للممثلة (سكاي بينيت) التي لعبت دور سارة، حيث كان أداؤها متميزا وعالي المستوى، كما يعزز نجاح المخرج قدرته على شد انتباه المتفرج وعدم إحساسه بالرتابة، رغم أن أحداث الفيلم تقع في أماكن داخلية، وينتشر فيها الخراب والجثث. كانت ولاية مسيلة الواقعة في شرق الجزائر, والتي عانت مثل جميع الولايات والمدن الأخرى من ممارسات الاستعمار الفرنسي خلال ثلاثينيات القرن الماضي على موعد مع ميلاد محمد الأخضر حامينا سنة 1934، ذلك الفنان السينمائي الذي نجح في خطف السعفة الذهبية الوحيدة لسينمائي عربي, ومن عقر دار البلد الذي استعمر بلاده، خلال دورة مهرجان كان السينمائي الدولي لعام 1975. تميز محمد الأخضر حامينا ومنذ صباه بالحيوية والنشاط والذهن المتقد وهو كأي صبي يعيش ظروف الاحتلال كان يتمتع بأفكار ومواقف تفوق سنه، أكمل دراسته الابتدائية والثانوية في الجزائر، أكمل دراسة الحقوق من كلية (أكس آن بروفانس) في الجنوب الفرنسي، ثم جند في الجيش الفرنسي، ولم يدم ذلك كثيرا، فنزعته الوطنية كانت أكبر من كل شيء, حيث هرب إلى تونس والتحق بالمقاومة الجزائرية, حيث عمل في الأنشطة الإعلامية التابعة لجيش التحرير الجزائري، وكانت تلك البداية نقطة تحول في مساره فيما بعد, حيث أسست له ملكة فنية مهدت لاختراق عالم السينما، فقدم أفلاما تسجيلية تصب في مسار الثورة الجزائرية وأبطالها، وبعد التضحيات الجسام قدمت الجزائر مليون شهيد هو مهر تحررها واستقلالها، اندمج الأخضر حامينا بالحياة الجديدة للجزائر وتواصل في عطائه، حتى جاءت فرصة إخراج أول فيلم روائي، فكان فيلم (رياح الأوراس)، الذي أسس لسينما جزائرية لما بعد الاحتلال، ومن بعده وفي عام 1967 قدم الفيلم الكوميدي (حسن ترو) وفي عام 1972 أخرج فيلم (ديسمبر) ثم جاء بعده الفيلم الذي أصبح فيما بعد من روائع الأفلام السينمائية العالمية والذي توج محمد الأخضر حامينا بالسعفة الذهبية لمهرجان كان السينمائي الدولي في دورته لسنة 1975، والذي تناول فيه قصة كفاح ونضال الشعب الجزائري وتضحياته الجسيمة.