فَرَضَ ملف الحرب على غزّة نفسه على المرشّحَين المتنافسَين في السباق الانتخابي إلى البيت الأبيض؛ كامالا هاريس ودونالد ترامب، أثناء مناظرتهما التلفزيونية، حيث اشتركا في التأكيد على أهمية أمن إسرائيل وحقها في الدفاع عن نفسها، مع إشارة هاريس إلى ضرورة أن يكون الدفاع عنها بطريقة مسؤولة تراعي المدنيين، في إشارة إلى عدم الرضا عن المجازر المستمرّة حتى اللحظة. أما دونالد ترامب فقد هاجم سياسات إدارة بايدن التي لم تستطع أن تحقق السلام والاستقرار في المنطقة، مشيرًا إلى أن هاريس "تكره إسرائيل"، وإذا أصبحت رئيسة فإن "إسرائيل ستختفي من الوجود خلال عامين". اللافت أن كلا المرشّحين تباينَا في كيفية التعامل مع العدوان الجاري على قطاع غزة ومآلاته، حيث تهرّب ترامب من الإجابة المباشرة، في الوقت الذي دعت فيه هاريس لوقف الحرب فورًا والتمسّك بفكرة حلّ الدولتين، مع الإشارة إلى أن ترامب دعا سابقًا لوقف الحرب، وادّعى أنه لو كان رئيسًا لما وقعت الحرب من الأصل، دون التّوضيح كيف كان له أن يفعل ذلك. أمّا في موضوع حلّ الدولتَين، فوَفقًا لتجربة ترامب أثناء رئاسته السابقة، فهو أقرب لأهداف بنيامين نتنياهو بمنح الفلسطينيين حكمًا ذاتيًا تحت السيادة الإسرائيليّة. ..حقّ الدفاع عن النّفس التزام المرشّحين في المناظرة بأمن إسرائيل وحقها في الدفاع عن نفسها، ورغم أنه تقليديّ في السياسة الأميركية، فإنه يأتي مختلفًا من حيث الجوهر هذه المرّة. فقد كانت واشنطن، طوال سبعة عقود مضت، تعتمد على قوة إسرائيل الاستثنائية بصفتها حليفًا إستراتيجيًا يُعتمد عليه في المهمّات الصعبة والمعقّدة في الشرق الأوسط. أما الآن، فقد انكشفت نقاط ضعف إسرائيل الإستراتيجية، لا سيّما عدم قدرتها على الدفاع عن نفسها. هذا الضعف لم يظهر فقط أمام القوى الإقليميّة، كما حصل في الضربة الصاروخية الإيرانية، على محدوديتها، في ليلة 14 أبريل/نيسان الماضي، ردًا على قصف تل أبيب للقنصلية الإيرانية في دمشق. وكذلك بعد تهديد إيران وحزب الله بالرد على اغتيال إسماعيل هنية في طهران، والمسؤول العسكري لحزب الله فؤاد شُكر في بيروت. في المرتين، حشدت واشنطن أساطيلها وحلفاءها لحماية إسرائيل، إلا أن الضعف الأكبر تجلى أمام صمود الشعب الفلسطيني الأعزل، وهجوم كتائب القسّام بأسلحة بدائية في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023 "طوفان الأقصى". حيث سارعت واشنطن برئيسها وجيشها إلى حماية إسرائيل وتخطيط وتنفيذ أشرس معركة في قطاع غزة. هذا التاريخ الفارق في عمر دولة الاحتلال، يشير إلى أن إسرائيل، على أهميتها الإستراتيجية لواشنطن، أصبحت أكثر تكلفة من ذي قبل على الولاياتالمتحدة الأميركية. ومع استمرار عجزها في الدفاع عن نفسها، تتحول إلى جرح غائر قد لا يندمل في الكف الأميركي. في ظل عمل قوى اليمين المتطرف في إسرائيل بقيادة نتنياهو على فتح صراع وجودي مستدام يعيد المشهد في الشرق الأوسط إلى العام 1948، مع احتقان يتسع ويتعاظم في نفوس شعوب المنطقة العربية ضد إسرائيل والولاياتالمتحدة، التي توفّر لإسرائيل الغطاء السياسي والدعم العسكري المفتوح لقتل الفلسطينيين العزّل والتهديد بتهجيرهم من قطاع غزة والضفة الغربية، وما يحمله ذلك من مخاطر على الاستقرار الإقليمي، لا سيّما مع مصر والأردن. ..إسرائيل ستختفي خلال عامين ترامب، خلال مناظرته، أشار إلى إمكانية زوال إسرائيل خلال عامين إذا فازت هاريس. قد يبدو التصريح سرياليًا، لكنه يعبر عن مدى هشاشة إسرائيل في عقله الباطن. وكأن ترامب أراد القول إن بقاء إسرائيل مرهون بدعم واشنطن، وأنها ستذوب إذا لم تحسن الإدارة القادمة حمايتها. بقدر ما جاءت التصريح عفويًا، فقد حمل في طياته تخوفًا من حجم التحديات التي تواجه إسرائيل في فلسطين والشرق الأوسط؛ حيث خسرت فرصة اندماجها في العالم العربي بعد معركة "طوفان الأقصى"، واستبدلتها بعزلة تعمّقت عن الشعوب العربية. كما أن إسرائيل تحولت إلى نقطة حرجة لدى الأنظمة العربية التي طبّعت معها العلاقات، حيث حاولت تلك الأنظمة التخفّي عن رادار الرأي العام العربي، من خلال اتخاذ مواقف مؤيدة للفلسطينيين، وداعية لوقف العدوان على غزة. الحديث عن زوال إسرائيل على لسان مرشّح رئاسي أميركي، الحليف الأكبر لإسرائيل، يشي بمستوى النظرة الدونية لهذا الكيان، وكذلك حجم التحديات الاقتصادية والأمنية والاجتماعية التي يتعرّض لها. فإصرار الكيان المحتل بقيادة بنيامين نتنياهو واليمين القومي المتطرف على تحويل المعركة إلى حرب وجودية ذات أبعاد دينية توراتية سيحفّز الكثيرين في المنطقة، كيانات وأفرادًا، على المواجهة واتخاذ زمام المبادرة والمشاركة في حرب الاستنزاف التي يخوضها الفلسطينيون واللبنانيون واليمنيون والعراقيون.
هذا ما حدث بالفعل مع الأردني ماهر الجازي الذي قتل ثلاثة من حرس الحدود الإسرائيلي في جسر الملك حسين مع فلسطين. احتفت بشهادته قبيلة الحويطات في الأردن بتاريخها النضالي، وقد يكون هذا النموذج مرشحًا للتكرار بأشكال مختلفة. إسرائيل استنفرت كل مكوناتها المادية حد الاستنزاف، واستنفرت سيف الدين والتوراة في مواجهة الفلسطينيين والعرب والمسلمين، وهو خطأ ستدفع ثمنه؛ لأنه يكرس البعد الديني الإسلامي في الصراع، وهو العامل الذي يخشاه الغرب، وعمل على تغييبه لعقود، لما له من تأثير ساحر عميق على الشباب والهوية الحضارية للعرب والمسلمين عبر التاريخ، لا سيّما أن أولئك الشباب يرون مستوى الاحتكار والاحتقار الذي يمارسه الغرب بحق شعوب المنطقة وهويتها ومقدساتها، لحساب الصهاينة المحتلين لفلسطين والقدس والأقصى. ولن يكون التاريخ وحده ملهم هؤلاء الشباب، فهم سيجدون في غزة – محضن حركة حماس والمقاومة الفلسطينية، بما تتسم به من تدين إسلامي – نموذجًا أذهل العالم بالصمود، وجعله يتساءل حائرًا عن سر القوة الخفية التي منحت هؤلاء قدرة على الإبداع ومواجهة أعتى قوة مادية عرفها العالم الحديث. غزة، علاوة على أنها كاشفة أخلاقيًا وسياسيًا للقريب والبعيد، تحوّلت إلى أيقونة وطنية وقومية وإسلامية ذات بعد إنساني وقيمي، في مواجهة حالة التوحّش التي تجسّدها إسرائيل. وهذا سيجعل المشهد أكثر وضوحًا للأجيال الباحثة عن الذات والمستقبل، ويزيد العبء على إسرائيل، كما يبعث في الشعوب صحوة لا تأتي إلا من بعد غفلة آنَ لها أن تنتهي. الجزيرة نت