أيّام قلائل ويحلّ علينا موسم من أعظم مواسم الطّاعة والعبادة والجو الروحاني المليء بالإيمان والتذلّل إلى المولى عزّ وجلّ، ألَا وهو شهر رمضان الّذي أنزل فيه القرآن شهر الصّوم والتّراويح وتلاوة القرآن.. وإنّ خير ما يزرع ويبذر البذر فيه هو مواسم الخيرات، والأزمنة الفاضلة والأوقات المباركة. سنستقبل قريبًا جدًا شهرًا كريمًا، وموسمًا رابحًا عظيمًا لمَن وفّقه الله فيه للعمل الصّالح، نستقبل شهر رمضان الّذي أنزل فيه القرآن، شهر تتضاعف فيه الحسنات، وتعظّم فيه السّيِّئات، "أوّله رحمة، وأوسطه مغفرة، وآخره عتق من النّار، جعل الله صيام نهاره فريضةً من أركان إسلامكم، وقيام ليله تطوّعًا لتكميل فرائضكم"، "مَن صامه إيمانًا واحتسابًا غُفر الله له ما تقدّم من ذنبه"، "ومَن قامه إيمانًا واحتسابًا غُفر الله له ما تقدّم من ذنبه"، "ومَن أتَى فيه بعمرة كان كمَن أتى بحجّة"، "فيه تفتح أبواب الجنّة، وتكثر الطّاعات من أهل الإيمان، وتغلق أبواب النّار، فتقل المعاصي من أهل الإيمان، وتغلّ الشّياطين فلا يخلصون إلى أهل الإيمان بمثل ما يخلصون إليهم في غيره". وجوب المسارعة في اغتنامها إنّ مواسم الخيرات تحتاج إلى عباد يتلقّونها ويغتنمونها كما تحتاج إلى أقوام قد أخذوا عبرتهم من قبل نزولها، وسارعوا في اغتنامها، يقول الله تعالى: {وَسَارِعُوا إلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ}. ويجب أن يعلم أنّ المتأنّي والمتمنّي والمتأخّر لا ينال من علو المنازل ورفيع الدّرجات، ولا حظّ له في السّابقين وقد فاته الكثير وخسر الكثير ولا يضرّ إلّا نفسه. إنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حثّ الأمّة على الاغتنام عامة والاغتنام خاصة، على اغتنام العمر عامة وخاصة في مراحل خمس، حثّ على اغتنام الشّباب قبل نزول الشّيب والهرم، واغتنام الصحّة قبل نزول الأمراض في الأبدان، واغتنام الغِنى ويسر الحال قبل مجيء الفقر والضّيق والعسر وقلّة اليد، واغتنام الفراغ وعدم وجود المَشاغل قبل اعتراضها وتربعها في الطّريق، واغتنام الحياة الدّنيا وزرع العَمل وبذر البذور وإمكانية اكتساب الحسنات والتخلّص من السّيِّئات قبل الموت الّذي إذا نزل بالإنسان نقله من دار العمل إلى دار المحاسبة، نقله محمّلًا بما عمل وجعله في البرزخ رهين عمله لا يقدّم حسنة ولا يؤخّر عن نفسه سيّئة. إنّ اغتنام هذه الخمس قبل نزول خمس تجعل الإنسان بإذن الله في مأمن من العوارض الّتي لابدّ وأن تنزل به ولا يمكن الفرار منها. يقول تعالى: {يَأيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَد وَاتَّقُوا اللهَ إنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُون، وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنْسَاهُمُ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}. إنّ المسلم بالفطرة هو الّذي لا تغرّه الدُّنيا ولا تقلّب النّاس فيها، الّذي يَعْلَم وَيُدْرِك أنّه لا يَنفع المرء إلّا ما قدّم لنفسه من العمل الصّالح. إنّ الأعمال الصّالحة تحفظ صاحبها من كلّ سوء ومكروه، تحفَظ صاحبها بإذن الله من زلّة القدم ومن الحور بعد الكور، خاصة أنّ هذه الدّنيا موعودة من الله تعالى بنزول عظائم في آخر أزمانها وحدوث فتن من شدّتها كقِطع اللّيل المُظلم، فتن تدع الحليم حيرانًا، ولهذا مِن حرص رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على أمّته نصحها باغتنام العمل الصّالح في وقت الرّخاء قبل نزول أوقات الشِّدّة والتسلّح بالعمل الصّالح وتحصيله والاعتناء به وادخاره ليوم سيصعب على المرء القيام به. يقول صلّى الله عليه وسلّم: "بادروا بالأعمال الصّالحة سبعًا -يعني قبل أن تنزل بكم سبعة أمور وأحوال- هل تنتظرون إلّا فقرًا مَنسيًا أو غنى مطغيًا أو مرضًا مفسدًا أو هرمًا مفنيًا أو موتًا مجهزًا أو الدجّال فشرّ غائب ينتظر، أو السّاعة، فالسّاعة أدهى " رواه الترمذي وقال حديث حسن. فهذه سبعة عوارض وأحوال لَن يفرّ منها أحد وإن سلم من واحدة فلن يسلَم من البقية لأنّها مكتوبة على ابن آدم، فالمرء تعرّض للفقر الّذي ينسي الإنسان شيئًا اسمه الإنفاق أو التصدّق، والغنى الّذي كثيرًا ما يتعثّر صاحبه فيطغى {كَلَّا إنَّ الإِنْسَانَ لَيَطْغَى أنْ رَآهُ اسْتَغْنَى}. وقد يسأل سائل بماذا تستقبل مواسم الخير؟ نقول: حريٌّ بالمسلم أن يستقبل مواسم الخير عامة بالتّوبة الصّادقة النّصوح، وبالإقلاع عن الذّنوب والمعاصي، فإنّ الذّنوب هي الّتي تحرم الإنسان فضل ربّه، وتحجب قلبه عن مولاه. كذلك تستقبل مواسم الخير عامّة بالعزم الصّادق الجاد على اغتنامها بما يُرضي الله عزّ وجلّ، فمَن صدق الله صدقه الله: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} العنكبوت:69. فيا أخي المسلم، احرص على اغتنام هذه الفرصة السّانحة والّتي قد لا تتكرّر قبل أن تفوتك فتندم، ولات ساعة مندم. فوائد مواسم الخير ومن فوائد مواسم الطّاعة سدّ الخلل واستدراك النّقص وتعويض ما فات، وما من موسم من هذه المواسم الفاضلة إلّا ولله تعالى فيه وظيفة من وظائف الطّاعة يتقرّب بها العباد إليه، ولله تعالى فيها لطيفة من لطائف نفحاته يُصيب بها مَن يشاء بفضله ورحمته، فالسّعيد من اغتنم مواسم الشّهور والأيّام والسّاعات وتقرّب فيها إلى مولاه بما فيها من طاعات فعسى أن تُصيبه نفحة من تلك النّفحات، فيَسعد بها سعادة يأمن بعدها من النّار وما فيها من اللّفحات..