لعلّ أهم ما يؤرّق عالمنا الإسلامي في الآونة الأخيرة دينيا وسياسيا وحتى معرفيا ظهور الورم السرطاني المسمّى " داعش " أو الدولة الإسلامية، وعودة ظهور فكرة (الخلافة الإسلامية) التي تمتد من الخليج إلى المحيط، ولو تعمّقنا قليلا في ملاحظة البيئة السياسية والإنسانية العربية لوجدنا أن مثل هذه الحركات الدموية الدينية إنما تمثّل ردة فعل لعدة عوامل سياسية واجتماعية واقتصادية ومعرفية متراكمة، فالاستبداد الذي استوطن العالم العربي لعقود ليس بالأمر الهيّن، حيث عرفت حقوق الإنسان والمواطن العربي والحريات الخاصة والعامة تحت ظل سطوته تراجعا رهيبا، والمتنفّس التاريخي الذي عرفته الشعوب العربية في ما اصطلح عليه بالربيع العربي عبّر عن مدى التشوهّات الإنسانية العميقة التي سبّبها حكم هذه الدول التسلّطية، وأبان عن مدى عمق الرضوض التي تركتها في التركيبة الاجتماعية، ومن الإنصاف القول أن تركة الأنظمة العربية الاستبدادية السابقة وآثارها الخفية والعميقة في الطبيعة المجتمعية لشعوب وأجيال نشأت على الاستبداد كانت وراء فشل العديد من الثورات وبروز التنظيمات الإرهابية !، وأقتبس في هذا المقام عبارة للكاتب العراقي وأستاذ الفلسفة الإسلامية عبد الجبار الرفاعي، حيث قال " إن الأمطار السوداء اليوم، إنما هي من غيوم استبداد الأمس". إن الاستبداد خراب ووبال يحل بالشعوب فيطمس حياتها ويحيلها إلى جحيم، يمسخ تعليمها بالجهل واقتصادها بالفساد وسياساتها بالطغيان، ومما ليس في مناعة من لعنة التسلّط : الدّين !، إن مما يغفل عنه الكثير أن أي نمط للتديّن إنّما يعكس بيئته ومحيطه، وللاستبداد نمطه التديّني هو الآخر ، حيث ينتج شبكة من المفاهيم والمفردات التي تنفي كل ما يخالفها، فتشكّل هذه المجموعة من المفاهيم ذهنية وعقلية أحادية اختزالية، تكرّس نفسية معاقة منحرفة لصاحبها، تستسيغ العبودية والضيم، وترى نفسها دون الإنسانية، خلافا لما جبلت عليه النفس البشرية من الاستقلالية والكرامة، ولعلّي أذهب أبعد من هذا فأقول أنه حتى تصوّراتنا الدينية – اللاهوتية تنطلي حتما بخلفيات منظومتنا الثقافية الاستبدادية، إن هذه الأخيرة إنما وجدت لتقطع على العقل طريقه حتى في بناء تصوّراته وخيالاته، والحقيقة أن هذا التصوّر نابع من خلفيّة عقدية تبني التصور اللاهوتي للعلاقة بين الله والإنسان بشكل عمودي، حيث لا قيمة للإنسان فيها، ويكون الله فيها هو القوي والجبّار، الذي ينتقم ويعذب ويحرق عباده في ناره، لا تحضرنا في هذه العلاقة صورة أنه سبحانه رحمن رحيم، سبقت رحمته غضبه، السبب العميق أنه انعكاس البيئة الاستبدادية، ومثل هذه التصورات اللاهوتية العليلة تجعل من صاحبها دائم الخوف ما يجعل منه أرضا خصبة للاستبداد !، إنه تديّن يخاف الله ، يخاف السلطة، يخاف الرأي الآخر، يخاف الحرية، يخاف الفردية، يخاف النقد، يخاف التفكير العقلاني، يخاف الحداثة، يخاف الخطأ، شأنه شأن الاستبداد لا يبحث إلا عن الإجماعات الشعبية، ويحارب التمايزات والمغايرات. بعد هذا العرض الموجز للطبيعة المعرفية للتديّن في البيئات الموبوءة، يمكننا فهم حقيقة الخطاب الديني وإشكالياته، وتجليّاته في الواقع بتحوّله إلى تهديد أمني حقيقي، وكذا بتأثيره على العقل الإنساني وقمعه وقولبته بقالب الاستبداد والجمود، إنه خطاب ديني لا يعلّمك كيف تكون مواطنا مسلما بل كيف تصير عبدا !، وبحكم أنه خطاب كهنوتي يكرّس مفهوم الإقصائية بكلّ صورها، فإنه حتما يحمل في طيّاته عنفا، وما يكبح تحوّل هذا العنف إلى إرهاب دموي هو القبضة الأمنية المحكمة للأنظمة التسلّطية، رغم أننا نجدها تسمح به أحيانا حين يخدم مصالحها، وحتى تظهر من خلال الفوضى أنها ملاذ الشعب من الانزلاق الأمني، وفي البلدان التي أصبحت حواضر للاقتتال المستمر كسوريا والعراق وليبيا حيث انهارت الدول، نشاهد بوضوح الآثار الدموية للخطاب الديني السياسي الاستبدادي ! إن فكرة " الخلافة " هي أكبر محرّك للجماعات الدينية المسلّحة في ممارسة العنف تحت غطاء التبرير الشرعي، وبإلقاء نظرة تاريخية خاطفة حول عودة هذا المصطلح إلى وجدان المسلم، نجد أنه منذ إلغاء مصطفى أتاتورك للامبراطورية العثمانية قامت العديد من الحركات الإسلامية التي كان مقصدها الأكبر وشغلها الشاغل إعادة "الخلافة "، مثل الإخوان المسلمين في مصر، حركة التحرير الإسلامي في القدس، والتي كانت أول من رفعت شعار الخلافة، الجماعة الإسلامية وجماعة التبليغ في الهند، جماعة النور في تركيا، وغيرها من الجماعات الإسلامية والتي انقسمت فيما بعد إلى قسمين: قسم أطلق مشاريعه الإصلاحية النهضوية في الميدان السياسي، لأنها كانت ترى مشكل الأمة ذات طبيعية سياسية، بينما اتجهت كل من جماعة التبليغ وجماعة النور إلى أن المشكل الجوهري نابع من التراخي والضعف الإيماني، فاهتمت بالخطاب الديني الدعوي -الوعظي، رغم أن الحركات الإسلامية السياسية لم تتخلّ هي الأخرى عن الخطاب الوعظي الديني. كما أنه لا يفوتنا التنويه لحالة الفشل السياسي الذي تشهده المنطقة العربية، حيث عجزت مختلف التيارات السياسية الداخلية بكافة مشاربها الإيديولوجية في الخروج بأوطانها من بحر الأزمات الداخلية والإقليمية المتلاطم، وذلك للفقر الفكري والتنظيري ونقص الخبرة السياسية الذي تعانيه، كل هذا جعل النموذج المثالي المتمثل في الخلافة يعود ويطرح نفسه كحلّ لهذه الأوضاع المتردية تحت شعار (الإسلام هو الحلّ)، والمثير للاستغراب أن هناك منظمات إسلامية دولية تؤمن بمشروع الخلافة، هذا ما نجده بوضوح في البيان الاستنكاري للاتحاد العالمي للعلماء المسلمين عشية تنصيب داعش لخليفتها المزعوم المسمّى (البغدادي)، حيث ورد فيه " إننا كلنا نحلم بالخلافة الإسلامية على منهاج النبوة، ونتمنى من أعماق قلوبنا أن تقوم اليوم قبل الغد ". يجد مصطلح " الخلافة " أصوله في منظومة الحديث في عدة آثار ترتقي إلى حد درجة (الحَسَن)، كالحديث الذي رواه الإمام أحمد وغيره، وهو عن حذيفة (رضي الله عنه) قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، فتكون ما شاء الله أن تكون ، ثم يرفعها إذا شاء الله أن يرفعها، ثم تكون ملكا عاضّا، فيكون ما شاء الله أن يكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكا جبرية، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج نبوة »، وهناك حديث ثانٍ وهو عن سفينةَ (رضي الله عنه)، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال« خلافة النبوة ثلاثون سنة، ثم يؤتي اللهُ مُلكه من يشاء »، فهذا الحديث لم يذكر خلافة ثانية تأتي وتكون على منهاج النبوة بعد الخلافة الأولى، وهو على نفس درجة الحديث السابق أو أقوى منه، وتقرير مسألة محورية ك " الخلافة " في الطرح السياسي الإسلامي على أحاديث حسنة أمر لا يستقيم، فهذين الحديثين لا يوجبان شيئا ولا ينهيان عن شيء، قد تتخذ في أحسن الأحوال مما يبعث على الأمل والبشارة بصلاح الأمور، لكن إذا جدّ الأمر فإن مسألة خطيرة تبعاتها كهذه، لابد أن تبنى على أدلة صحيحة قوية، فمن ادعى أنه بإقامته الخلافة قد أقام واجبا من الدين، سألناه من أين جاء بما يوجبه ؟! وعند هذا السؤال أتوقّف معلنا بداية سلسلة من المقالات – بحول الله – حول (مصطلح الخلافة والدين، الدولة وتطبيق الشريعة) والتي سأنشرها على جريدة "الحوار" الجزائرية المشكورة جزيل الشكر على فتحها لنا الأبواب للتطفّل على القارئ الكريم بما أمكننا، كما أفتح باب الأسئلة أو الإضافة أو النقد على الإيميل الخاص : HYPERLINK "mailto:[email protected]" [email protected]