مُفْتَرَقَاتٌ أحمد طيباوي/روائي وأستاذ جامعي للقصة فصلان موجزان لا ثالث لهما، أما أولهما فعادي على نحو لا يثير معه إلا وقفات قليلة يمكن ألا تُذكر إذا أُريد للقافلة أن "تسير". ويبدأ عندما يخطر للقوم خاطر بأن يقيموا تمثالا تخليدا لذكرى رجل كان أحد صانعي تاريخ المدينة، ثم تُرصد الأموال لخاطرهم الثقافي ذاك في إطار تظاهرة قسنطينة عاصمة للثقافة العربية، ويُستدعى النحات ليحاكي صورة الشيخ ممسكا بكتاب في يمينه، ومميلا برأسه إلى الشمال قليلا، حيث يده المرفوعة تتكئ عليها أفكاره المهمومة بالوطن المحتل والمطموس على معالم هويته، ويرى التمثال النور ويوضع في ساحة عامة في المدينة. وأما آخرهما فيُختزل في مشهد واحد قصير، لا يرى منه الرائي غير ظلال العابرين فيه، أفاق الناس في صباح يومهم ذاك فلم يجدوا التمثال، إلى أين هرب بن باديس؟ أو من هرّبه؟ تتوالى الأسئلة الحائرة، دون أن يظفر أصحابها بما يشفي غليل حيرتهم وفضولهم، حول مصير التمثال الذي أُريد له أن يخلد للمدينة شيخها الجليل وللوطن إمامه الأول. ما بين الفصلين المحكيين هاهنا باقتضاب يقتضيه المقام، صورة طائرة على شبكات التواصل الاجتماعي يستدعي تأويلها فصولا وفصولا من الكلام. صورة فذة الدلالة ساطعة التأويل، لو اجتمع كل فناني العصر واجتهدوا في أن يضعوا صورة تعبر مثلها عن حالنا، ما بلغوا معشار ما بلغته تلك الصورة. فتية تحلقوا حول التمثال، ليس من أجل التقاط الصور أو قراءة ما لم يُكتب كتعريف بالشيخ الجليل لمن يمر بتمثاله الجالس في استكانة لا تمت بصلة لنشاط المثابر والعبقري طيلة الأعوام التي عاشها، لكنهم وضعوا سيجارة بين شفتي التمثال، وهاتف (آي فون) في شماله، وفي مظهر يخزي مجتمعا بأكمله، مجتمعا أفلس في التربية وفي كل شيء. ولولا أن التمثال قد قُدّ من حجر، لقال الناس إن الشيخ استفظع ما وجد عليه القوم، واستنكر فعالهم، فآثر أن يهرب ويتوارى من سوء ما وجد عليه الأمة التي ناضل عمره كله في سبيل تنويرها وتعليمها الأخلاق الفاضلة، لكن الصحيح أن من بيدهم أمرنا، أو من ينوب عنهم في قسنطينة، قد قاموا بتهريب إحدى آيات عبثهم بالتاريخ والحاضر، في جنح الظلام، بعدما افتضح أمرهم وأصبحوا مثارا للسخرية والاستنكار معا (هل كان عبد الحميد بن باديس يسعى لتحطيم الأصنام أم لتكريسها؟). كتبت في هذا العمود في الأسبوع الماضي، بأن التظاهرة هي هباء ثقافي، وهذه أولى العلامات، لا أحد يدعي الإطلاع على الغيب، لكننا حفظنا دروسهم وفصولهم الفاضحة والمفضوحة فصلا فصلا، وأنا على يقين الآن بأن العلامات الباقية آتية تباعا. عظم الله أجركم في الشيخ مرتين، وفي الوطن ألف مرة.