[email protected] النار إن اشتعلت في أية بقعة لابد من إطفاء حريقها وإلا فإن لهيبها سيتمدد ليحرق المحيط القريب برمته، و ربما سيتمدد ليطال مسافات بعيدة .. والنار التي أصابت غرداية و مست بلدات في سهل وادي ميزاب وخصوصا بلدة القرارة التي كانت رمزا للتسامح و رائدة للثقافة الراقية والسكينة والهدوء، بل وحالة نادرة من حالات التضامن بين الساكنة وحاضنة معهد الحياة الذي رأى النور منذ نهاية الثلاثينات من القرن الماضي، يجب أن تنطفيء لكي لا تحرق الأخضر و اليابس ولكي لا تعم الفتنة جهات أخرى من الوطن، و النفوس التي رُوِّعَتْ و حتى التي تلك التي رَوَّعَتْ الآخرين يجب أن تهدأ لأن الثار لن يجلب سوى المزيد من الدماء والدموع و الخراب و توسيع رقعة الأحقاد و الضغائن بين مَنْ كانوا يمثلون لنا رمزا للتسامح والحكمة. لقد ترسخ في الذاكرة الجزائرية و حتى الأجنبية عن غرداية العديد من الصور الجميلة، ظلت غرداية واحدة من جواهر الجزائر السياحية والحضارية و الثقافية، بل إن قصور وادي ميزاب تشكل جزءًا من التراث المعماري العالمي النادر المصنف من قِبل اليونسكو كأجمل اللوحات التي أبدعتها يد الإنسان منذ القرن العاشر الميلادي بتكيفها عبر البيئة الصحراوية بطقسها الحار صيفا. وغرداية ترمز كذلك إلى تعايش نادر بين مذهبين عريقين منذ ما يقرب من أحد عشر قرنا، إثر تأسيس بلدة العطف الآمنة قبل أزيد من ألف عام، والتي تعد أولى بلدات وادي ميزاب. و كانت غرداية و ما تزال كذلك تشكل لوحة جميلة بتلك الأعراس الجماعية لشبان و شابات في عمر الزهور و قد أقبلوا على الحياة في زواج جماعي يتكفل به أهل الخير و الإحسان حتى لو لم تكن تجمعهم أية صلة قرابة بالمتزوجين و المتزوجات، وهي ظاهرة بدأت عدواها الجميلة تنتشر في مختلف جهات الوطن بالنسبة لمن يتبعون المذهب المالكي، بعد أن كان الأمر صفة مميزة من أعراس إخواننا في المذهب الإباضي. وأتباع المذهب الإباضي من وادي ميزاب يتميزون عن باقي الجزائريين بصورة تضامنية أخرى، و هي وجود دُورٍ في مختلف مناطق الوطن و حتى خارج الوطن بما في ذلك في الأماكن المقدسة للتكفل بسكن العابرين أو الزائرين من الإباضيين لهذا المكان أو تلك المدينة. كانت المناوشات التي تعرفها المنطقة من حين لآخر على مدى القرون الماضية تنشب خصوصا حول الأرض و العقار و حول قضايا فردية بسيطة قلما تتعلق بالمذهب الإباضي أو المالكي، لكن عقلاء المذهبين وشيوخ المنطقة وأهل الحل والعقد إباضيين ومالكيين كانوا يضعون حدا لتلك المشاكل بالسرعة الفائقة بمجرد التحاور والالتقاء بينهم في جو مفعم بالمودة والتسامح وبحكمتهم ورزانتهم المعهودة على أكواب من الشاي أوطعام لذيذ وحبات تمر تجود به المنطقة التي تزخر بشتى أنواع التمور. و قد حاولت فرنسا الاستعمارية في إطار سياسة فرق تسد التي طبقتها في مختلف مناطق الوطن أن تزرع النعرات المذهبية والعنصرية المقيتة وتفرق بين أتباع المذهبين المالكي والإباضي في سهل وادي ميزاب، لكن ثورة أول نوفمبر 1954 جاءت لتقضي نهائيا بحكمة قادتها وصرامة مجاهديها على كل التناقضات والنعرات القبلية والعشائرية والمذهبية المفتعلة التي حاولت فرنسا تأجيجها لتأبيد احتلالها للجزائر. ولعل أجمل الصور وأرقاها في هذا الصدد أن قادة الثورة طلبوا من شاعر الجزائر الكبير ابن بني يزقن بغرداية مفدي زكريا أن يكتب للثورة نشيدا يهز النفوس ويحرك الهمم ويلهب مشاعر الجزائريين ضد المحتل الغاصب. وهكذا كان نشيد قسما بكلماته المدوية المجلجلة محركا ومؤججا لمشاعر المجاهدين والفدائيين والمسبلين لدك حصون العدو الغاصب لأرضهم ومثيرا لحماسة الشعب لتأييد ثورته من أجل استعادة الاستقلال الوطني، كما كان هذا النشيد الخالد يزلزل المحتلين الذين كانوا يرتجفون من كلماته أكثر من ارتجافهم من ضربات المجاهدين، و ما يزال قسما وسيبقى بإذن الله النشيد الوطني الخالد تردده الأجيال جيلا بعد جيل في كل مكان من أرض الوطن أو تزهو به مع الراية الوطنية خارج الوطن عندما يحقق أشبال الجزائر نصرا كيفما كان لونه في أي لون من ألوان الرياضة. كما أن إلياذة الجزائر ستبقى من أجمل اللوحات الشعرية التي كتبت أجمل الملاحم و البطولات التاريخية للوطن بلون شعري راق . في أعقاب استعادة الاستقلال واسترجاع السيادة الوطنية عاشت الجزائر بما فيها منطقة وادي ميزاب حالات نادرة من التضامن بين أبناء الوطن بما فيهم ساكنة وادي ميزاب مالكييها و إباضييها على حد سواء . كما أن أجمل الصور في هذا المجال و التي تحدثتُ عنها مرارا و كتبتُ عنها هي صورة المعلم المجاهد محمد السوفي. كان محمد السوفي المنحدر أصلا من الأغواط معلما متميزا في بلدة متليلي قبل الثورة المسلحة، و هناك احتضنه رجال الشعانبة بكل حب. ومع اندلاع ثورة أول نوفمبر التحق محمد السوفي بالثورة و أصبح من المقربين من العقيد عبد الحفيظ بو الصوف رحمه الله الذي عينه أول مسؤول عن إذاعة الثورة إلى غاية استعادة الاستقلال الوطني في 1962، وبالرغم من الإغراءات والعروض التي تلقاها من قبل الرئيسين أحمد بن بلة و هواري بومدين رحمهما الله بتولي أرقى المناصب، فإن الرجل فضل العودة إلى التعليم إلى أن وقع عليه الاختيار ليكون رئيسا لبلدية غرداية بإجماع الساكنة إباضيين ومالكيين. وتجددت تلك الثقة مرة أخرى في الرجل عندما تم ترشيحه للانتخابات التشريعية ليصبح نائبا لغرداية عام 1977 في المجلس الشعبي الوطني، و هو ما يؤكد أن سكان غرداية الإباضيين منهم والمالكيين على حد سواء، لم يكونوا يعرفون لا العصبية و لا الجهوية وإلا ما كانوا ليختاروا رجلا لا ينتمي لتلك الجهة أصلا. ترجع علاقتي بغرداية إلى مرحلة مبكرة من شبابي ..فقد درست على كثير من أساتذتها المتميزين بدءا بالشيخ صالح السماوي هذا الرجل الذي كان يشح علينا في النقاط، و كنا عندما نحتج يقول لنا مبتسما: ستعرفون قيمة ذلك عندما تكبرون .. ولعل ما تميز به هذا الرجل هو عصاميته الكبيرة التي جعلته ينال شهادة الدكتوراه بعد أن تجاوز عتبة السبعين من عمره، وكان من بين الأساتذة لاحقا في الجامعة محمد الجون والدكتور محمد الناصر شفاه الله. في عام 1975 وقعت إحدى المشاكل الفردية ببريان، عندما أقدم أحد المعلمين المنحدرين من بلدية حاسي الدلاعة على ضرب مبرح لأحد التلاميذ ببريان، مما تسبب في حركة احتجاجية كانت تتسع رقعتها. ووجدتُ حينها الراحل الحاج سليمان غزال الذي كان وقتها إماما في بلدة حاسي الدلاعة يتصل بي لنقوم معا بزيارة الشيخ بيوض الذي لم تكن لي به وقتها سابق معرفة قبل ذلك. كان الحاج سليمان واحدا من أعيان عرش الحرازلية وأحد المجاهدين المعروفين وقتها، وكانت تربطه بالمجاهد محمد جغابة وزير المجاهدين الأسبق أوثق الصلات، فقد كان المرحوم الحاج سليمان هو همزة الوصل بين جغابة وبين الشيخ بيوض وبين العديد من المجاهدين بالمنطقة بعد أن ذهب برفقته أثناء الثورة لمنطقة غرداية لتأسيس الخلايا الأولى للثورة، مثلما يتحدث عن ذلك محمد جغابة نفسه في كتابه: حوار مع الذات و مع الآخر. استقبلنا المرحوم الشيخ بيوض في بيته بكل مودة و طرحنا عليه المشكل فتدخل بحنكته ووقاره المعهود رحمه الله، وانتهى المشكل في حينه، وعرفتُ لاحقا ابنه الدكتور أحمد بيوض، حيث جمعتنا الزمالة نائبا في المجلس الشعبي الوطني ومكلفا بالدراسات والتلخيص برئاسة الحكومة إثر ذلك، إلى جانب رجالات عديدين من تلك المنطقة بمالكييها و إباضييها على حد سواء، حيث تطورت تلك العلاقة إلى حد الصداقة مع العديد من الأسماء وخاصة بعد التحاقي بمحطة ورقلة الجهوية للتلفزة منذ النصف الأول من عام 1986 إلى النصف الأول من عام 1994. ولعل هذه العوامل هي التي كانت من بين الأسباب التي شجعت بعض أبناء المنطقة إلى دعوتي عام2011 لبريان، حيث قمت بسلسلة من اللقاءات الماراتونية مع أهل المنطقة في جو من المصارحة لوقف الخلاف الذي نشب حينها، مثلما حضرتُ جزءا من اللقاءات التي أدارها وزير الداخلية الأسبق دحو ولد قابلية مع أبناء غرداية المالكيين منهم والإباضيين، والتي توجت باتفاق لوضع حد للخلاف بين الذي كان قد ظهر في تلك الفترة. ويجدر بي هنا قبل الحديث عن بعض الملابسات التي تكون وراء الأحداث الدموية الأخيرة، أن أتطرق إلى بعض الملامح والسمات التي يتميز بها النسيج الاجتماعي لولاية غرداية. كانت معظم مدن وبلدات ولاية غرداية بحدودها الحالية تتبع ولاية الواحات الشاسعة التي كان مقرها الإداري يقع بورقلة على بعد 200 كيلو متر من غرداية، وفي أعقاب التقسيم الإداري الذي حدث عام 1974 أصبحت ولاية الأغواط إحدى الولايات المستحدثة وتم إلحاق غرداية بها عبر مسافة 200 كيلو متر تفصل بين غرداية ومقر الولاية الجديدة. ومع التقسيم الذي حدث في عام 1984 أصبحت غرداية عاصمة ولاية تضم 13 بلدية من بينها خمس بلديات تضم أغلبية سكانية يتبعون المذهب الإباضي وخصوصا العطف، والقرارة، وبريان، بينما تشكل مدينة غرداية حالة متميزة، إذ إلى جانب كونها تضم مواطنين من جميع أنحاء الوطن نظرا لطابعها السياحي المميز ولنشاطها الصناعي والتجاري الهام، فهي تضم نسبة كبيرة من الساكنة التي تتبع المذهب الإباضي، إضافة إلى مجموعات سكانية من المنطقة يتوزعون على 18 عرشا، حسب بعض التقديرات. وتتوزع المجموعات السكانية التي تشكل النسيج الاجتماعي لولاية غرداية في باقي البلديات، بما فيها مدينة متليلي ذات الأغلبية السكانية من عرش الشعانبة، بينما تشكل ضاية بن ضحوة المتاخمة لغرداية مجموعة سكانية كبيرة من عرش المذابيح، ويتوزع باقي سكان عروش المنطقة على مختلف البلديات الأخرى بنسب متفاوتة من أولاد السايح وأولاد نايل والحرازلية والشرفة وغيرهم من العروش التي سكنت المنطقة بمذهبها المالكي في جو من المحبة و التضامن على مدى أحد عشر قرنا باستثناء مناوشات لم تكن تأخذ طابع التعصب المذهبي. ومع إقرار التعددية السياسية والإعلامية عقب دستور 1989 وقانون الإعلام لعام 1990 ظهر بعض الشبان المتأثرين ببعض الأفكار المنادية بحقوق الإنسان، وكان الشاب كمال فخار، وهو دكتور في الطب واحدا من هؤلاء، حيث حاول استمالة مجموعات من الشبان تحت هذا المطلب المغلف بالأمازيغية، و لم تكن أفكاره تحظى بالقبول من طرف الغالبية الساحقة من المجتمع الإباضي المتمسك بالعربية باعتبارها لغة القرآن و الدين و بعاداته و تمسكه بالوحدة الوطنية و بالموروث الاجتماعي الذي رسخته ثقافة مجلس عمي سعيد والكرتي التي تعطي الحلول لمختلف المشاكل المطروحة في إطار هذه المجالس التي تضم نخبة من المجتمع الإباضي يتقدمهم أهل العلم و رجاحة العقل و ذوي الجاه من الأعيان و بعض الشيوخ المتميزين بغزارة علمهم. وفي محاولة لغطاء سياسي لدعم أفكاره كما يبدو، انضم الطبيب كمال الدين فخار لجبهة القوى الاشتراكية الأفافاس وأصبح عضوا قياديا فيها، ولكنه لم يلبث أن انضم دون استشارة حزب الزعيم التاريخي حسين آيت أحمد للتنظيم الانفصالي الماك الذي يتزعمه المغني فرحات مهني المطالب بالاستقلال الذاتي لمنطقة القبائل، والذي يجد الدعم من قبل النظام المغربي ومخابرات هذا البلد إلى جانب أطراف أخرى. وقد كان قرار انضمام فخار إلى تنظيم الماك الانفصالي واحدا من الأسباب التي جعلت الزعيم التاريخي آيت أحمد المعروف بمواقفه الثابتة بخصوص الوحدة الوطنية يسارع إلى طرد الطبيب فخار من الأفافاس . ويبدو من بعض المؤشرات أن المخزن رغم علاقاته الطيبة مع آيت أحمد وعلاقات المصاهرة مع العائلة الملكية، فإنه يكون قد لجأ إلى دعم فخار المناضل السابق في الأفافاس المنظم للماك بهدف الانتقام من سياسة الجزائر المساندة للقضية الصحراوية . وتؤكد بعض المؤشرات أن أحداث الربيع العربي مع نهاية 2010 بدايات 2011 كانت فرصة سانحة للمخزن المغربي لتجسيد هذا الدعم بهدف إحداث قلاقل في هذا الجزء من الوطن، حيث كان المغرب دوما يبحث عمن ينفذ خططه تجاه الجزائر لإضعاف موقفها من قضية الصحراء. ويخطئ كل من يتوهم أن الأجهزة الجزائرية كانت غائبة عما يدبر في الخفاء ضد استقرار الوطن و ضد كيان الدولة ككل. وإذا كنت لا أتهم هنا لا هذا الشخص و لا غيره لأنني لا أمتلك كل العناصر و لست مؤهلا لإطلاق الأحكام الاعتباطية، فإنني أعتقد أن القضاء وحده بالتعاون مع الجهات المختصة، هو من يستطيع تحديد الفاعل أوالفاعلين والمدفوعين بشأن الأحداث الدامية التي أدمت قلوبنا وخصوصا في بلدة القرارة التي كانت على الدوام مثالا للتضامن والمحبة بين الساكنة بكل مكوناتها، وإصدار الأحكام التي تليق بمن يعبث باستقرار و أمن هذه المنطقة العزيزة من الوطن. و ما من شك أن مشاكل العقار و السكنات الاجتماعية خصوصا والبطالة تكون واحدة من العناصر المساعدة على التعفن والتوتر، ولكنها ليست في اعتقادي هي العناصر البارزة التي جعلت 19 مواطنا يموتون في القرارة في ليلة واحدة من العشر الأواخر من شهر رمضان المبارك. إن رائحة السياسة تكاد تزكم النفوس من هذه القضية التي يجب على القضاء أن يتحرك بسرعة لمحاسبة المتسببين فيها من أي طرف كان، كما يجب على الذين يتدخلون من حين لآخر لتبرئة هذا أو إطلاق سراح ذاك أن يكفوا أيديهم عن العدالة، فالمسألة لم تعد تحتمل أكثر من هذا بعد أن سالت الكثير من الدماء والأمر يتطلب الصرامة و الحكمة في الوقت نفسه والدولة يجب أن تتصدى بيد من حديد لكل عابث باستقرار الوطن و دماء الأبرياء. إن ما جرى في هذه المنطقة يتطلب معالجة شاملة قانونية واجتماعية وسياسية وأمنية وتنموية في الوقت نفسه. ولا شك أن تغييب لغة الحوار وإبعاد المشايخ والعلماء وأهل الحل والعقد من المالكيين والإباضيين عن المساهمة في الحوار والحل وترك الدهماء ومراهقي السياسة يعبثون بأرواح الناس واستغلال العواطف، هي واحدة من الأسباب التي جعلت الحريق يتصاعد في ولاية غرداية وفي مناطق كانت دوما آمنة. ويبقى في النهاية أن جميع الأطراف بما فيها وسائل الإعلام والمثقفين و السياسيين مدعوون للتهدئة، كما أن هذه المعارضة مدعوة إلى الإسهام في استقرار الأوضاع بدلا من الجري وراء السراب والأوهام في حملات انتخابية مسبقة على حساب دماء بريئة في لعبة قذرة. والأكيد أن المواطنين في وادي ميزاب ينتظرون بعد استقرار الأوضاع أن يعود الصفاء إلى المنطقة و أن يعود العاقلون من المالكيين والإباضيين إلى الحوار في جو الإخاء و المودة الذي لطالما ميز علاقات الطرفين على مدى أحد عشر قرنا مضت. فيا من تحبون هذا الوطن .. و يا من تسعون لاستقرار الدولة بدلا من اللُهاَث وراء الكراسي، أسهِمُوا مع الخيّرين في وقف النزيف وإطفاء نار الفتنة كي لا يمتد اللهيب إلى باقي الوطن.