حاورته: سامية حميش قال الإعلامي المخضرم، بجريدة "الخبر"، جلال بوعاتي، "أن إعلامنا فعل الكثير لصالح الوطن وسالت دماؤه عندما كان يجب أن تسيل، بكى، تشرد في قيطوهات سيدي فرج وموريتي.. كما أنه روى بحبر أقلامه الشرف والبطولة بأتم معنى الكلمة، واعترف بأن الجيل الجديد يستحوذ على "مانشيتات" الصفحة الأولى للجريدة باقتدار. وفي هذا التصريح ل"الحوار"، أشاد بوعاتي بأسماء إعلامية كبيرة، قال إنه تعلم منها التحدي في مهنة المتاعب. * تنقلت بين عدة جرائد ومختلف الأقسام، كيف تقيم مشوارك الإعلامي اليوم؟ في كل محطة من تلك المحطات، كنت أشعر بأنني في بداية الطريق، لا يفرق بينها سوى الوجوه والمهارات والمعارف الجديدة، وأسلوب التعامل مع المطبات غير المألوفة. هناك أيضا طباع الناس التي تختلف، ولا يذللها سوى إعطاء نفسك فرصة اكتشاف الآخر. لا أخفيك، أسماء مثل خضير بوقايلة، حميدة عياشي، محمود بلحيمر، وسليم قلالة وسعيد بن زرقة، وغيرهم.. لا يمكن أن تنسى. وبحق أفتخر بالعمل تحت إشرافهم في سنوات كانت الصحافة من الممنوعات في بلادنا. مما تعلمته، التحمل والتحدي.. لم يكن سهلا العمل مثلا مع حميدة عياشي دون تحدي، الرجل مبدع لأبعد الحدود، بحق أفتقد أسلوبه في العمل، وأتمنى من كل قلبي أن يعود مجددا إلى قرائه.. كما لا أستطيع المرور مر الكرام على اسم سليم قلالة وأوراقه التي كانت تنشر كل خميس على أعمدة جريدة "المساء".. علمتني الصحافة الوفاء.. لكل من أتعرف عليه حتى وإن كنت لا أتفق مع أفكاره، من منطلق الإنسان أولا وقبل كل شيء آخر. علمتني هذه المهنة أيضا، ألا أقيم نفسي، بل أحاسبها.. نحن معرضون لارتكاب أخطاء بحق الغير، عن حسن نية في كثير من الأحيان، وذلك أثناء التعامل مع الأحداث. أقرأ رضا الناس عني في عيونهم.. وأول هؤلاء هو والدي أطال الله في عمره.
* هل تؤمن بالتخصص في الإعلام؟ منذ التحاقي بهذه المهنة، لم ألتق يوما بأحدهم يحدثني عن التخصص في الإعلام. خصوصية الإعلام عندنا هو الإلمام بكل المجالات، للتقليل من التكاليف والأعباء التي تقع على عاتق الجريدة، هذا هو الجانب الخفي في العمل الصحفي عندنا. ومن حيث لا يدري مالكي وسائل الإعلام أنهم ب"الخلوطة" التي يقذفون فيها الصحفي المبتدئ، هم يصنعون منه فردا مثقفا، ولو بدرجات متفاوتة.. هناك من الزملاء من يغتنم هذه السانحة لإحداث الطفرة، ومنهم من يجنح إلى الروتين والاختفاء وراء التغطيات والعمل التحريري اليومي.
* هل تستهويك الفضائيات، وهل سنرى يوما جلال بوعاتي في برنامج تلفزيوني؟ في الوقت الراهن، لا. أخاف من الأضواء وأؤمن كثيرا بالعين. ألا تخافين من العين؟، أفضل أن أبقى "قيس –قيس" وأمشي على الرصيف ملتصقا بالجدار.. المشاهد الجزائري يريد من يحدثه بحلول عن واقعه المعاش، بعيدا عن "الماكياج". أيضا، البرامج الناجحة في ما أشاهده في قنواتنا الناشئة هي الشتم والكذب والتقليد.. والاعتداء على ما تبقى من هدوء لدى الأسرة الجزائرية. هذا تدمير للذوق العام وانحراف، نأمل من هيئة الزميل ميلود شرفي الإبقاء على أذنيه وعينيه مفتوحة. _هل لديك مشاريع مستقبلية في عالم الكتابة؟ بصراحة، دشنت مشروعي بلملمة أفكاري وترتيبها. أستعين بأحد الزملاء لتوجيهي في ما يتعلق بمنهجية العمل. أريده أن يكون بمثابة أول الغيث. قرأت للكثيرين، لم لا يقرأ لي الكثيرون.. (ربي يسهلها).
* كيف تقيم المشهد الإعلامي في الجزائر؟ بالرغم من كل ما يقال عليه.. إعلامنا فعل الكثير لصالح الوطن. سالت دماؤه عندما كان يجب أن تسيل، بكى، تشرد في قيطوهات سيدي فرج وموريتي.. كتبوا بحب لصالح حياة الوطن والشعب، لا أملك الشجاعة لأقول بخلاف هذا الكلام. ليس سهلا على صحفي عايش تسعينات القرن الماضي، ليقول كلاما يغضب الذين رووا بحبر أقلامهم الشرف والبطولة بأتم معنى الكلمة. إعلامنا بخير، لأنه نال حريته بالدم، لأنه ساهم ويساهم في نصرة المظلوم في كل نقطة من هذا الوطن وخارجه.
* يشتكي بعض الإعلاميين اليوم من التضييق، هل تراجع سقف الحريات في الجزائر برأيك؟ هناك تضييق، لكن بالمقابل توجد فسحات واسعة لمن يريد أن يقول كلمة الحق. هناك مواقع التواصل الاجتماعي..الكثير منا يعتبر حرية التعبير مطية لممارسة الابتزاز والتخويف والاستفزاز.. الحرية تبني ولا تهدم. ومن حيث لا يدري بعض أدعياء الدفاع عن الدولة ومؤسساتها بداعي استرجاع هيبتها وتهذيب الخطاب الإعلامي واحترام رموز الدولة وتأليه المسؤولين وتنزيههم عن الأخطاء. الذين يخافون من الصحفي، لا يستحقون تولي المسؤوليات، لأنهم يثبتون عجزهم عن ممارسة المسؤولية. وبدل تكميم الأفواه وقطع الألسنة وتجفيف الأقلام، أقترح بالمناسبة اشتراط مؤهل إتقان التواصل الإعلامي والتحلي بروح بناء العلاقات مع الإعلام لتولي أي منصب مسؤولية.. تصوروا كيف ستصير صورة الدولة وسمعتها. لنحاول إشعال شمعة تنير الطريق بدل سب الظلام.. لا شيء يأتي بالتمني، أي (بوجي تاكل الروجي، وإلاّ كل الخبز واسكت).
* كيف تقيم الأداء المهني للجيل الجديد من الإعلاميين؟ كلما جاءت أمة لعنت التي سبقتها.. تماما مثل الكلام الذي نسمعه من الأمهات والجدات. لكل جيل زمنه الجميل. ونحن زماننا كان جميلا جدا.. عشنا ولادة التعددية الإعلامية، عاصرنا التحولات والتغيرات بحلوها ومرها. عرفنا رجالا وهبوا حياتهم في سبيل هذا الوطن.. ومهرا غاليا من أجل الظفر بالكلمة الحرة. جيل اليوم، يعيش زمانه هو أيضا، فلنتركه، هم المستقبل، وعلينا أن نساعدهم على بذل التضحيات من أجل الوصول للنجاح. ومثلما وجدنا من يغفر زلاتنا في قاعات التحرير في بداياتنا، علينا أن نفعل نفس الشيء، ولتتسع صدورنا لهم، وأصارحك، نحن في "الخبر"، نفعل ذلك يوميا.. الجيل الجديد يزين قاعة التحرير، يملؤها نشاطا وحيوية ويصنعون أفضل القصص الإخبارية، بل يستحوذون على مانشيتات الصفحة الأولى باقتدار وعن جدارة، وذلك بحضور أقلام مخضرمة، اتركوهم، لا تلعنوهم فإن المستقبل لهم.
* هل انتهى زمن الإعلاميين الكبار؟ أطال الله في أعمارهم، ومتعنا بما تجود به أقلامهم لأعوام عديدة ومديدة، هم باقون إن أرادوا ذلك. الحمدلله، هناك عدة جرائد تضع أعمدتها تحت تصرف وفي خدمة هؤلاء المعلمين. ابحثوا عنهم ستجدون بأنهم أكثر إنتاجا من الأقلام الشابة.
* لو عاد الزمان إلى الوراء، هل كنت ستختار مهنة الصحافة مرة أخرى؟ سأكشف لك سرا.. أنا لم أختر الصحافة بل هي التي اختطفتني. لم أتخرج من كلية الصحافة والاعلام، بل أنا خريج المدرسة العليا للتجارة، أول دفعة في التسويق سنة 1993، بعد أن هربت من مدرسة الصحة العسكرية ومدرسة الهندسة العسكرية في برج البحري، وكلية الاقتصاد بالخروبة.. زملائي في تلك الدفعة صاروا إطارات سامية ومحاضرين في جامعات عالمية، ورجال أعمال ناجحين.. وتكتب عنهم الصحافة وتملأ أخبارهم نشرات أخبار التلفزيونات. الفضل في ما أنا عليه اليوم، يرجع إلى أبي موسى.. كان يحضر لي وأنا في المستوى المتوسط ، كل ما كانت تجود به الساحة الإعلامية الجزائرية في الثمانينات من مجلات وجرائد عربية وأجنبية، مثل "المستقبل"، و"الصياد" و"الجيل" و"الوطن العربي" و"العربي" و"عالم المعرفة" و"الفيصل" و"الدوحة"، و"عكاظ"، و"لوبوان"، و"لكسبريس".. كان الحاج موسى يدفعني دفعا للمطالعة والقراءة، لحاجة في نفسه، وهو ابن الشهيد الذي لم يدخل يوما المدرسة بسبب الاستعمار. أحببت الصحافة لأن أبي هو من حببها لي.. بعد سنوات، صرت مراسلا لجريدة "عكاظ" السعودية، وقبلها وبعدها راسلت عدة عناوين بين جرائد ومجلات، مصرا على أن يكون اسم والدي مرافقا لاسمي في توقيعاتي. بعد 22 سنة، أجدني عاجزا عن الإجابة عن سؤالك الصعب.. لأنك تسأليني عن قطعة من حياتي، فمعذرة.