من تابع شهادات الوالي السابق بشير فريك وقرأ كثيرا من الشهادات الأخرى عن الطريقة التي كانت تُدار بها الدولة في سنوات التسعينات وبعدها يجد نفسه يطرح تساؤلا هاما ورئيسا عن ماهية الجمهورية أو الدولة التي أراد حمايتها من أوقفوا المسار الانتخابي أو الذين دعوا إلى ذلك. الشاهد أن كل المؤشرات اليوم تشير إلى أنهم لم يكونوا بصدد حماية جمهورية أو دولة بل بصدد تفكيك وهدم كل مكونات الدولة والسطو على مقدراتها واستباحتها واختطافها. للأسف تلك المرحلة هي التي أخرجت إلينا من أصبحوا يُعرفون اليوم برجال الأعمال والمستثمرين. اليوم يحدثوننا عن الاستثمار كبديل لريع النفط ولكن لا يحيطوننا علما بكيف جمع هؤلاء المستثمرون أموالهم وكيف تحول بعضهم إلى دولة داخل الدولة وبسطوا سيطرتهم على مفاصل الاقتصاد وأصبحوا يتحكمون في قوت الجزائريين بل وفي كثير من المرافق التي من المفترض أنها ملك للشعب. بالعودة مثلا إلى سنة 93، وبحسب شهادة رئيس الحكومة السابق بلعيد عبد السلام، وعندما كانت خزينة الدولة خالية تماما وكانت حصص الدقيق توزع على الشعب ببطاقة التعريف ولا يجد المواطن السكر ويستعمل قطع الحلوى الرخيصة بديلا، كان رئيس الحكومة آنذاك يحاول إقناع قادة الانقلاب وعلى رأسهم الجنرال تواتي بعدم الرضوخ لشروط الصندوق النقد الدولي وتفكيك مؤسسات الدولة وغيرها من الشروط، ويصر أنه من الممكن تفادي هذا السيناريو عبر تجميع موارد الدولة ومحاربة الفساد والتهرب الضريبي. ومما قام به الرجل مثلا هو مطالبة رجل الأعمال ربراب بتسديد 140 مليار سنتيم ضرائب (ما يعادل اليوم 1000 مليار سنتيم أو يزيد)، كما اكتشف أن جريدتي ليبرتي (التي يمتلكها هذا الأخير) ولوماتان تطبعان على حساب الدولة فطلب وقف هذا العبث وأن يسددوا مستحقات الطباعة، ليقرر في الأخير إعطاء مهلة شهر للمتخلفين لكي يسددوا ما عليهم من ضرائب ومستحقات مالية. لم يستمر بلعيد عبد السلام رئيسا للحكومة إلى غاية نهاية المهلة، فلقد أنهيت مهامه بنهاية المهلة ليأتي بعده رضا مالك رئيسا للحكومة ويمسح ضرائب ربراب وغيره، ثم ليبدأ بعدها مسلسل تفكيك الشركات الوطنية وخوصصتها وبيعها بالدينار الرمزي، وربما عبر قروض من مال الشعب، واستصدار القوانين والأوامر الوزارية التي تسهل الاستيلاء على أملاك الشعب وتحويلها إلى ملكيات واستثمارات خاصة. يومها لم يكن أحد يجرؤ على الكلام فلقد غيّر الرعب موقعه كما قال رضا مالك وأصبح لا صوت يعلو فوق صوت المجازر والمذابح وكان المواطن لا يفكر إلاّ كيف يحيا إلى الغد. عندما استيقظ الشعب بعد هول المجازر اكتشف أنه ليس وحده الرعب الذي غيّر موقعه بل المصانع ومؤسسات الشعب غيرت موقعها أيضا وأصبحت ملكا لمن يصح أن نسميهم أمراء الحرب ليقدموا أنفسهم اليوم كمستثمرين وليستمر استعباد الشعب تحت غطاء الاستثمار.