في كل بلاد، ومع كل عصر ومصر يؤدي المثقفون دورا رياديا بارزا في نماء الوعي لدى الشعوب، وإحياء الضمير الجمعي للأمة، وبعث نهضتها. فالمثقف جسر متين تعبر من فوقه الأمة، فتشعر بالأمان والثقة وهو لسانها الناطق عن آمالها، وينال ثقتها حين يتبنى آلامها فيخرجها في لوحاته الفنية الرائعة، ويترجمها أوراقا مصففة في كتب تنقشها مخيلة تتسع للأفكار، ووجهات النظر، وثراء الرأي، والحلول للمشكلات المستعصية. وحين يتحرك المثقف فإنه يرسم المنحنى البياني للأمة، ويبني لنفسه خطا يعرفه الناس به، فتتمايز الأسماء، وتتضح القدرات، ويجري الانطباع في الأذهان حول كل مجهود فكري وثقافي يقوم به أصحابه ويعرضونه للاستفتاء الشعبي العام، فيناله منهم القبول والرضا، أو السخط والانتقاد والرفض، والميدان محك. المثقف بهذه الصورة يحمل لواء التغيير، ويشير بقلمه ليرسم مؤشر الأمة صعودا وهبوطا، وحين ينتج الموقف المناسب، ويكتب النص الجميل، والقصة المثيرة المشوقة، والكلمة الرائدة الشاهدة المسؤولة، والجديد من الأفكار المبدعة التي ما سبقه إليها أحد، إنه حين يفعل ذلك يكثر قراؤه، ويحيط به محبوه ومريدوه، يقتنون صفحات خطها قلمه، ويتداولون رأيا أبدعته عصارة عقله، ويتناقلون خبر عموده الصحفي، أو لوحته الزيتية أو مشاركاته وحله وترحاله، فيصبح سفير قلوب تنبض برقة ما أبدع، وينسجم إيقاعها مع أوتاره ومنجزاته، وحين تكبر الهمة عند المثقف، يزداد الاهتمام، وتتسع دائرة المشاريع عنده، ولم يختلف اثنان في أن المثقف لايزال الدعامة الأساس في ضبط إيقاع المجتمع، والصوت المنتصر العالي، والغالب المعبر عن خيال الأمة ماضيها وحاضرها ومستقبلها في الحي وفي القرية وفي المدينة وفي العواصم وفي الحضر وفي المدينة ومع ظروف البداوة أو التمدن. لعلنا ننكر على مثقفينا أن ينسحبوا من الحياة، ولا نقبل منهم أن يجنحوا إلى السكون، أو إلى الغموض الباعث على الاكتئاب والهروب من المجتمع وتداعيات الواقع المعيش، سيبقى عزاؤنا أن عدد هؤلاء المنسحبين قليل في مقابل العدد الهائل الباعث على المقاومة ومواجهة الرافد الذي يستهدف كيان الأمة وقدراتها، ويحاول المساس بلغتها أو هويتها أو ثقافتهاأوتاريخها.. لاتزال في المثقفين بقية رمق، ودورة حياة ليعيدوا للأمة بوصلتها ولم يرموا المنشفة بعد، ولاتزال الصورة عنهم مشرقة تتخذ طريقها نحو تشكيل جدار واقف صامد لا ينحني أو يلين. ولئن ظل الانطباع السائد عند عموم الناس أن المثقفين متزاحمون على أبواب أولي النفوذ، متهالكون على فُتات موائد السلطان، أو حب الشهرة والجاه، والبحث عن مراتب الوجاهة، فإن هذه الصورة سرعان ما تتلاشى إذا علمنا أن الذين يقومون بذلك إنما هم القلة الدخلاء على جسم الثقافة الذين يعملون بإيعاز من خلفهم ممن يريدون صناعة جو عام مهترئ، ويحاولون رسم انطباع يائس ليحجب تأثير هذه الفئة في مشهد الأحداث، أو يريدون رسم صورة بائسة للمثقف من أنه متزلف، طماع، يبيع حبره ودواته ومبادئه لأجل ثمن بخس زهيد. هذه الفئة من الناس لا يخلو منها عصر أو مصر، لكن الغالبية من مثقفي الأمة لا تقبل هذه العروض السخيفة، فيتعففون، ولا يقبلون استدراجا، ولا استغفالا بشيء لا يرون فيه أنفسهم، ولا تسايره قناعاتهم، ولم ترضه طقوس أنظمة المناعة الثقافية التي اكتسبوها على مر السنين، وهم يصدرون للناس تقاليدهم التي تعلموها، فالمبادئ عندهم خط أحمر لا يسمحون لأية جهة أن تتجاوزه أو تتحداه. وهم يعملون على استمرار أدوار العظماء، ويتقمصون أشخاصهم وآراءهم ومبادئهم، ويواصلون تكملة التراكمية الثقافية للحفاظ عل هوية الأمة ومنجزاتها. صحيح أن مثقفينا الحقيقيين تقام حولهم جدر التعتيم، والتهميش، ولا تفتح في وجوههم مجالات البروز ليتصدروا مشهد الأمة، إلا أنهم متى أتيحت لهم الفرصة أثبتوا تفوقهم وجدارتهم، وفي الوقت نفسه تظهر حاجة الأمة لهم ولدورهم وحاجتها لأمثالهم كي يرافقوها في جميع مفاصل الحياة، وتشعر الأمة تجاههم بالتقصير حين تكتشفهم أول مرة، وتتساءل في حيرة قائلة لهم: أين كنتم قبل هذا ؟ إن توسيع دائرة المنخرطين في هذا التوجه العام لمثقفينا مهم جدا في بعث النهضة وتطورها فينطلق الفكر، ومعه الثقافة والمسرح والرسم والكتابة والقصة والرواية والقصيدة والفيلم والنشيد والأغنية وحشد من الفنون والفعاليات بما يحقق تفاعلا جماهيريا عالي الجودة تصهر فيه الطاقات والإبداعات لتنتج في الأخير ذوقا متميزا فريدا يعود بالنفع على الفرد والمجتمع، وتيارا جماهيريا هاتفا بحق العيش في عزة وحرية وعدالة وذوق راق.