الدكتور أبو القاسم سعد اللّه من مواليد سنة 1930 في قرية ڤمار إحدى ضواحي واد سوف بالجنوب الشرقي الجزائري، تلقى تعليمه الأول في وادي سوف حيث حفظ القرآن الكريم، واصل تعليمه بجامع الزيتونة بتونس بين 1947-1954، وتحصّل على شهادة الأهلية وكان الثاني في دفعته المتخرجة، منذ صغره أولى اهتماما بالأدب حتى لقّب بالناقد الصغير، عاد إلى الجزائر في سنة التخرج نفسها، فشغل مهنة التعليم بداية بمدرسة الثبات بالحراش التي كان يديرها الشهيد الربيع بوشامة، ثم درس في مدرسة التهذيب بعين الباردة ولاية سطيف. بدأ يكتب في جريدة ”البصائر”، لسان حال جمعية العلماء المسلمين في بداية الخمسينات، حيث استهل سعد اللّه حياته الثقافية وهو طالب علم ومعرفة بكتابة الشعر، وكانت باكورة أعماله اثنتي عشرة قصيدة كتبها ما بين 1954-1956 لتؤلّف ديوانه الصغير ”النصر للجزائر”، الذي صدر بمناسبة أسبوع التضامن مع الشعب الجزائري الذي نظمه الاتحاد العام لنقابات العمال المصري، ثم استمر في نظم الشعر ليصل رصيده الشعري إلى خمس وعشرين قصيدة بين 1954-1960 جمعها في ديوانه ”ثائر وحب”، خلال دراسته في تونس بدأ النشر في جريدة ”النهضة” و«الأسبوع” التونسيتين و«الآداب” اللبنانية، كما ساهم في إنشاء ”رابطة القلم الجديدة”. انتقل إلى القاهرة في أكتوبر سنة 1955 بمساعدة من جمعية العلماء المسلمين، حيث التحق بكلية الآداب والعلوم الإنسانية وحصل منها على شهادة الليسانس في اللغة العربية والعلوم الإسلامية سنة 1959، بعدها كانت الخطوة التي حدت من توجه سعد اللّه الشعري ودفعت به إلى ميدان الكتابة، فكانت رسالته للماجستير التي حضرها في القاهرة في موضوع ”محمد العيد آل الخليفة رائد الشعر الجزائري الحديث” سنة 1961، جعلت من فكره الأدبي ينضج ويبلغ حتى تبلور أسلوبه وطريقته في التعامل مع اللغة. سافر إلى أمريكا سنة 1962 والتحق بجامعة Minnesota، التي حصل منها على شهادة دكتوراه الدولة في التاريخ الحديث والمعاصر باللغة الإنجليزية سنة 1965، هنا نلاحظ أن سعد اللّه دخل تخصّصا جديدا وهو التاريخ يبرر ذلك سعيدوني بقوله: ”إذ سوف يجد سعد اللّه نفسه بفعل ظروف الدراسة الجامعية بجامعة مينيسوتا، وبتأثير من حركة المدّ التحرري والزخم الثوري الذي أفرزته الثورة الجزائرية، يتحول من معالجة الأدب إلى بحث قضايا التاريخ فكانت دراسته حول الحركة الوطنية الجزائرية منذ سنة 1900”. القارئ لكتابات أبو القاسم سعد اللّه بشكل عام يجده لا يخرج عن إطار المفهوم الذي سبق شرحه وتوضيحه، أي أنه لا يفرّق بين القضايا المحلية الخاصة بوطنه الجزائر والقضايا المرتبطة بوطنه العربي الإسلامي، فهو حين دعا إلى التأميم الثقافي وجزأرة التفكير والذوق والاتجاه العام لا يقصد من وراء ذلك التقوقع على الذات، مثلما تصور البعض، يقول: ”إن الجزائر قبل كل شيء هي جزء لا يتجزأ من الوطن العربي، وهذا الوطن يؤمن بحضارة مجيدة ساهمت الجزائر نفسها في الدفاع عنها وتدعيمها، وإن محاولة الفصل بين الجزائريين وأشقائهم التي قام بها الاستعمار لا يمكن أن تصبح نهائية، وهكذا فإن الجزأرة في الحقيقة ما هي إلا عملية استعادة المياه إلى مجاريها أي ربط الثقافة في الجزائر بمصير الثقافة العربية الشاملة”. الواقع أن اهتمام سعد اللّه في كتاباته بكل ما هو جزائري فكر سديد، لذلك لا يمكن لأحد أن يلومه فهو في تحليله لتاريخ الجزائر يربطه بدائرة الحضارة العربية الإسلامية يقول: ”وقد يظن البعض بأني أقصر أبحاثي عن الجزائر لغرض شوفيني، الحق أن أبحاثي تنطلق في الأساس من نظرة شمولية للتاريخ العربي الإسلامي، وأن القارئ سيلاحظ أنني أربط بين تطورات الأحداث والأفكار في الجزائر بواقع الوطن العربي وأحداثه وأفكاره، وكثيرا ما اشتكى إخواننا في المشرق العربي من عدم توفر المادة عندهم عن ماضي الجزائر”. المحور الثاني الذي طبع تفكير سعد اللّه هو قضية التاريخ، التي كانت في صلب اهتمامه باعتباره أستاذا جامعيا مشرفا وموجها، فقد كان يرى أن ”التاريخ الحقيقي هو الذي يكتبه أبناء البلد عن أنفسهم لأنه جزء منهم ولهم، أما وجهة النظر الأجنبية فتظل عملا مساعدا فقط”. بهذه النظرة لعطاء سعد اللّه الأدبي ومساهمته التاريخية يمكن القول بأنه نجح إلى حدّ كبير في تقديم صورة متكاملة عن المثقف الجزائري الأصيل، فهو نموذج للكاتب الجزائري القادر على التأثير في وسطه الاجتماعي والتفاعل من خلاله مع الآخرين، هذه الصورة التي تنطبق عليه جسدها في تعريفه للمثقف بقوله: ”نعني بالمثقف الإنسان الذي بلغ درجة من المعرفة جعلته ينظر إلى مجتمعه، وإلى العالم كله بمنظار واع شامل ونافذ، وبهذا المعنى لا يمثل طبقة بعينها، ولكنه شخص بلغت به خبرته وذكاؤه إلى أن يرتفع فوق مستوى الإقليميات والطبقات والطوائف”. حاول الدكتور سعد اللّه أن يطبّق هذا المفهوم على المثقف الجزائري، يتحدث طبعا عن مثقف ما بعد الاستقلال ”فالمثقف الجزائري عبارة تحتاج إلى مدلول واضح وإلى تحديد، هل هو الكاتب مطلقا؟ أو هل هو كل ذلك؟ هل هو المفكر المتفلسف في الناس والحياة؟ فإن المثقف بهذا المعنى حاضر غائب في الوقت نفسه، هو حاضر بإنتاجه وغائب بفعاليته وتأثيره هو لعلنا بحاجة إلى المثقف القائد وليس المثقف المنتج، ويحضرني مثالان للمثقف القائد في الجزائر هما بن باديس ومالك بن نبي، فهل عندنا اليوم واحد من هذين الرجلين”. تكتمل نظرة سعد اللّه للمشكلة الثقافية انطلاقا من بعدها اللغوي وقيمها التاريخية، بترصد التحوّل الجاري على الساحة الجزائرية، والذي انطلق من رفض الماضي وحمل معه فراغا فكريا واغترابا ثقافيا وردة سياسية وعدمية اقتصادية وفوضى اجتماعية، لم تعد معها الثورة التي طالما تشدّق بها الكثيرون سوى ذكريات قابعة في ذاكرة النسيان، بعد أن تلطخت مبادئها بمساحيق إيديولوجية غريبة محي معها الموروث الحضاري إلا من خصائصه الإثنية، فالثورة التي تعجز عن التوالد والإخصاب تهرم وتموت دون عقب.. وما أكثر الثورات العقيمة.