من ضمن التدابير التي جاء بها قانون المالية 2017، المثير للجدل، تحجيم الميزانية الموجهة لتسيير قطاع الثقافة إلى أدنى مستوى، مقارنة بنظيراتها في القطاعات الأخرى، تطبيقا لسياسة التقشف التي انتهجتها الحكومة، وهو القرار الذي تضمر منه المثقفون الجزائريون، الذين اعتبروا المسألة ضربا للمنظومة الفكرية والثقافية في الصميم، وهو الذي سيقف حجر عثرة أمام النمو والتطور الفكري في جزائر المستقبل، عن تداعيات القانون، وعن النتائج التي سيسفر عنها القرار نكتشفه من خلال التصريحات التي أدلى بها كتاب، مثقفون، واقتصاديون استطلعت "الحوار" رأيهم في الموضوع. * جمال سعداوي (كاتب وناقد): الطبقة السياسية في الجزائر تختصر الثقافة في الفلكلور وفي هذا الصددو أكد الكاتب والناقد المسرحي جمال سعداوي، أن الإشكالية تكمن في ذهنية النظام السياسي والمؤسسات التشريعية التي لا زالت تعتبر القطاع الثقافي قطاعا هامشيا، وترى الثقافة كعنصر إلهاء وترفيه، ومن كماليات الحياة المجتمعية، فكل انشغالاتهم منصبة حول ريع الموارد الطبيعة، وكيفية الاستثمار فيها، بينما يتم استبعاد الثروة البشرية من خارطة الاستثمار بالرغم من أنها تمثل قاعدة للحل وعمقا لاستراتيجية الاستثمار، فالثقافة من المنظور الصحيح تعتبر حجر الزاوية في خطة التطور والنمو، إذا ما أعطيت لها مهمة رعاية الإبداع وتأطير الأفكار وإنتاج المعرفة، فالقفزة النوعية لأي مجتمع، حسب سعداوي، تعتمد على منسوب الوعي وصناعة الرأي وتدفق الأفكار، وكل هذا يعد من صميم عمل القطاع الثقافي، ولكن للأسف لا زالت الطبقة السياسية في الجزائر تختصر الثقافة في الفلكلور، مما أدى إلى تسطيح الثقافة وظهور طبقة من الانتهازيين همهم الوحيد هو استنزاف المال الثقافي، وعليه تميعت مهمة القطاع الثقافي وأصبح طبلا للعملية السياسية، في ظل تغييب وغياب النخبة عن ساحاته ومؤسساته، فمن يا ترى سيدافع عن الرفع من ميزانية القطاع ومساواته بالقطاعات الاستراتيجية ومؤسسات القطاع لا تملك خطة عمل وليس لديه بنك معلومات للكتاب والمفكرين وصناع الرأي في مختلف ساحات الوطن، كيف ذلك والمسؤولون عن القطاع وعلى مدار عقود لا زالوا يرون أن الفلكور هو الواجهة الثقافية للبلد في زمن يصدر فيه العالم المتقدم كتبه وكتابه وناتج نتاجه المعرفي، كيف سيحدث هذا والمؤسسات الثقافية تروج للثقافة الاستهلاكية ولا تبذل جهدا لتشكيل وبناء العقل المنتج، كيف سيتغير الوضع والمسؤولون على القطاع الثقافي يتحدثون ويثرثرون من خلف الأبواب المغلقة لمكاتبهم ولا يسعون للتغلغل في مختلف مؤسسات القطاعات الأخرى، إنهم لم يؤمنوا بعد بالدور الاساس والفعال للثقافة في المجتمع، والشيء الذي لا نؤمن به سرعان ما نتخلى عنه في اللحظات الصعبة. * الكاتب الدكتور محمد بغداد: السياسة الثقافية الناجحة هي التي يحتل فيها الإنسان الأهمية المركزية من جهته، قال الكاتب والإعلامي محمد بغداد إن النقاش الدائر اليوم حول قانون المالية الجديد أهمل بصفة غريبة التداعيات الاقتصادية الرهيبة المتوقعة على قطاع الإبداع الوطني والمشهد الثقافي الجزائري الذي سيكون الضحية الأولى لقانون المالية، والذي ستتحمل البلاد خسائر تاريخية رهيبة مستقبلا، يجعلنا نستفسر عن الغياب المثير للنخب الثقافية والمجتمع المدني الثقافي، وعن النقاش الاقتصادي والاجتماعي الذي يفرض اليوم ضرورة إعادة الهموم الثقافية الوطنية إلى صدارة الأحداث، مطالبا ضرورة إقحام النخب الثقافية في المشاركة في مصير البلاد، على اعتبار أن الثقافة هي الروح الحقيقية التي تعبر عن المجتمع، وأن هناك إساءة كبيرة إلى المجتمع عندما نحصر النقاش في التداعيات الاقتصادية عن الأكل والشرب واللباس. فالمجتمع ليس كائنات مادية فقط، التي لا تعبر عنه اليوم السياسة الثقافية المنتهجة، وفي مقدمتها تراجع عدد المهرجانات الوطنية الذي يعتبر خسارة كبيرة للساحة الوطنية، لأن هذا القرار لم يخضع لحوار اجتماعي، بل استند إلى بيروقراطية ستكون له تداعيات خطيرة على المشهد الثقافي الجزائري مستقبلا. وأشار بغداد في معرض حديثه إلى أن السياسة الثقافية الناجحة هي التي يحتل فيها الانسان الأهمية المركزية وتعبر عنها الاستراتيجيات الكبرى للصناعات الثقافية من خلال الاستثمار في مواهبه وقدراته الإبداعية الذاتية، وكذا مركزيته في صناعة المشهد الثقافي وآليات تحركاته، وإمكانية ذلك الاستثمار في تحقيق الطفرة النوعية مهما كانت الإمكانات والظروف القائمة في اللحظة التاريخية، والشاهد القريب هنا هو الوضعية التي كان عليها الجزائريون إبان الاستعمار الفرنسي، أين تمكنت النخب الوطنية بمختلف توجهاتها من النجاح في إنجاز مشاريع ثقافية مهمة كانت تجلياتها في إنشاء نوادي وطنية جمعت أطياف المجتمع الجزائري، وخلقت حركية ثقافية توعوية خدمت الفرد الجزائري الذي استطاع الذهاب إلى تجسيد مشروع الثورة التحريرية التي فتحت الأبواب لكل الفعاليات والاتجاهات لتقديم جهودها للحصول على الاستقلال. وقال موضحا إن المشكلة الكبرى التي يجد المشهد الثقافي نفسه في مواجهتها بعد قانون المالية تتطلب وجوب تفعيل المجتمع المدني الثقافي وجعله في خدمة المشهد الثقافي في الجزائر بعيدا عن المفاهيم الفاشلة لأنماط دعم الدولة الذي يُعد سلاحا ذا حدين، لأن تراجع عدد المهرجانات الوطنية يعتبر خسارة كبيرة للساحة الوطنية، وأن قرار التقليص لم يخضع لحوار اجتماعي فاعل وحقيقي، بل استند إلى بيروقراطية ستكون له تداعيات خطيرة على المشهد الثقافي الجزائري مستقبلا، التي خسرت حركية كبيرة. * الدكتور هارون عمر (جامعة المدية): الدولة طبقت مبدأ "التضحية بالظفر أولى من قطع اليد" وفي السياق ذاته، أرجع الدكتور عمر، أستاذ بجامعة المدية المختص في الاقتصاد الكلي والمقاولات، القضية إلى الأزمة النفطية التي يعيشها العالم المنتج للنفط، موضحا أن الجزائر ليست في منأى عن هذه الأزمة، وعلى غرار كل الدول النفطية تمر بمرحلة حرجة اقتصاديا، قوامها تراجع عائدات سوق الطاقة، نظرا للانخفاض الكبير في أسعار المحروقات في السوق العالمية من جهة، وانكماش الحصة السوقية للجزائر لأسباب مختلفة، وهو الأمر الذي أثر بشكل كبير على إيرادات الدولة التي تراجعت بأكثر من 50%، وفي ظل هذه الظروف غير العادية، يقول هارون، يجب على المسؤولين إعادة النظر في التوازنات المالية الجزائرية، عن طريق مراجعة نفقات الدولة، خاصة في جانب ميزانية التسيير التي تعتبر من النفقات غير المسترجعة، وهو ما أدى إلى تخفيض ميزانية عدد كبير من القطاعات وتسقيف النفقات في قطاعات أخرى، وهنا تصبح التضحية بالظفر أولى من قطع اليد، ووفق هذا المبدأ ظهر أن معد قانون المالية لسنة 2017 تبنى تحجيم كبير في ميزانية الثقافة، وهو ما يهدد أكثر من 100 مهرجان من مجموع 120 مهرجان على المستوى الوطني، وحتى المهرجانات المتبقية اتضح أن الميزانية المخصصة لها هزيلة، لدرجة أن فعاليتها أضحت جد محتشمة على غرار المهرجان الوطني للمسرح المحترف في طبعته 11. داعيا إلى عدم تحويل المهرجانات إلى "زردات"، حتى لا نغس في ذهنية المتلقي الجزائري توجها يؤكد أن أي شيء ثقافي أو ترفيهي مجاني، وهو ما جعل الدولة تمول كل ما تقوم به 17000 جمعية على المستوى الوطني التي أصبحت كالابن المدلل للحكومة، لا تتحرك إلا بعد الحصول على دعم منها، في حين أن المثقف الحقيقي هو الذي تحركه حاجته لممارسة الفعل الثقافي وتجعله يبحث عن مصادر تمويل خاصة، ومن هنا جعلنا الثقافة شأنا خاصا بالدولة فقط لا علاقة للأفراد به، فهي من تخطط وتنظم وترعى كل شيء وهم مجرد متلقين فقط، رغم أن الدولة وفق المعيار الدستوري ليست مسؤولة ثقافيا إلا على ما تعلق بروافد ومقومات الدولة الجزائرية والمذكورة في الدستور، وهي اللغة العربية، الإسلام والأمازيغية، وكل ما زاد عن هذا فهو تفضل منها، وهذا يرجع بالأساس للمفهوم الهلامي للثقافة والذي يختلف اختلافا عميقا بين أفراد المجتمع الواحد، خاصة ونحن نعيش في عصر العولمة الذي تختلف فيه الثقافات داخل العائلة الواحدة، فكيف بأكبر دولة في افريقيا! إن الواقع المالي للدولة يفرض علينا التوجه نحو خلق حاجات ثقافية لدى الأفراد، علما أن الدول المتقدمة تراهن على القطاع الثقافي، فصناعة السينما في أمريكا تدر 108 مليار دولار سنويا، وهو ما يقارب الاحتياطي النقدي للجزائر، لن نصل إلى هذا المستوى ما لم نقم بابتكار منتجات ثقافية تجمع بين التثقيف والترفيه أو ما أحب تسميته ب "ترفيه الثقافة" لتحفيز المواطنين على استهلاكها، وهو ما يجعل الفاعلين في المجال الثقافي مجبرين على التحول من المحاكاة إلى الابداع في تقديم ما لديهم للجمهور حتى تصبح الثقافة قابلة للتسويق من خلال محتوى أصيل في قالب جميل يدفع المتلقي على الدفع للحصول عليه، وإلا سنبقى نعاني تراجعا ثقافيا وفكريا قوامه غياب التمويل. * الخبير الاقتصادي الدكتور سليماني ناصر: ميزانية قطاع الثقافة أقل 15 مرة من ميزانية وزارة المجاهدين وعلى صعيد مماثل، أوضح الخبير الاقتصادي الدكتور سليماني ناصر، أن الميزانية التي خصصتها الدولة لقطاع الثقافة أقل ب 15 مرة من الميزانية الموجهة لوزارة المجاهدين، وهي ميزانية يمكن وصفها بالضعيفة، إذا ما قرنت بباقي القطاعات الأخرى. ومن أجل تدارك القضية، قال ناصر: يجب استغلال الميزانية على قلتها وتحجيمها في الميادين التي تخلق الثروة الفكرية، بدل إضاعتها في مهب الريح، وذلك يتم عن طريق تطبيق سياسة الترشيد في النفقات التي من المفروض أن تنتهجها الجهة الوصية على هذا القطاع، وتنظيم تظاهرات ثقافية وعلمية تعود بالفائدة على الشعب الجزائري، عوض إطلاق العنان وتنظيم مهرجانات فارغة المحتوى، كالذي احتضنته قسنطينة في 22 نوفمبر الفارط المتمثل في مهرجان الموسيقي "ديما جاز" والذي تزامن مع المصادقة على قانون التقشف -قانون المالية- يقول سليماني، واعتبر مثل هذه التظاهرات هدرا للأموال، ومضيعة للوقت "كان من المفروض استغلال الأغلفة المالية التي تصرف على عدد المهرجانات التي تنظم هنا وهناك، والتي لا تسمن ولا تغني من جوع، استخدامها في رافدها السليم مثل خلق جائزة لأحسن إبداع، أو ابتكار أو تكريم المفكرين، والمبدعين والذي يعود بالفائدة على المثقف والمتلقي".