بقلم : يوسف بلمهدي لا شك أن مناسبة المولد النبوي الشريف ألقت على شهر ربيع الأول ظلالها وأشرقت فيه أنوارها، ودلّت قلوب الناس جميعًا على الهتاف بمحمد صلى الله عليه وسلم حبًّا وقربًا، وتشوقًا وتذوقًا لجماله، ونحن نسعى إلى أن نقدم بين يدي المولى سبحانه عزّ وجلّ عملاً صالحًا متقبلاً، لم نجد أفضل من الصلاة والسلام على النبي الكريم صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا. في هذه اللفتات القرآنية المباركة، أجلس وإياكم على مائدة من نور في قوله سبحانه وتعالى: " إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ ۚ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا" (سورة الأحزاب: الآية 56)، وقد دلّت هذه الآية الكريمة على لفتات كثيرة يكفي أن نقول بأن علماءنا أوجبوا على المسلم أن يصلي مرة واحدة في عمره على المصطفى صلى الله عليه وسلم، تمامًا كشهادته "أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله"، غير أن المسلمين بين مقل ومكثر من هذه العبادة التي تدل على تعلق الإنسان برسوله وحبه له واتباعه لسنته صلى الله عليه وسلم، ولنبحث جميعًا عن بعض هذه اللفتات لعلنا نستشف منها درسًا أو عضةً ينفعنا الله سبحانه وتعالى بها، فيجعلها شفيعًا لنا يوم القيامة يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم. أما اللفتة الأولى فإن هذه الآية الكريمة اشتملت في أولها على خبرين اثنين، واشتملت في آخرها على أمرين اثنين كأنها جمعت بين أقسام الكلام كله على الخبر والإنشاء، بل ذكر الله تعالى في صدر هذه الآية خبرين اثنين، وفي عجزها أمرين اثنين للدلالة على الإنشاء، أما الخبران فأولهما صلاة الله على نبيه، إن الله يصلي، والخبر الثاني إن ملائكة الله تصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، وأما الأمران فقول الله تعالى: "صَلُّوا عَلَيْهِ " والأمر الثاني "وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا"، فما أعجب هذه الآية الكريمة التي جمعت فأوعت من الدلالات المباركة في هذه الآية صدرًا وعجزًا، بدايةً وختمًا، ثم لاحظ كيف أن الله تعالى بذكره للخبر الأول والخبر الثاني أكد ذلك ب "إِنَّ" لتوكيد الخبر وتعظيمه، وبيان أن هذا العمل من أشرف الأعمال وأعظمها عند الله سبحانه وتعالى، ولذلك بعد أن شوّق الله المؤمنين بهذا العمل الذي يشترك فيه الله سبحانه بجلاله وملائكته في قربه في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم استشرفت نفوسهم، كأن المؤمنين يقولون يا رب مادمت تصلي على رسولك، الملائكة يصلون على رسولك دلّنا ماذا نعمل؟، فقال لهم: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا "(سورة لأحزاب: الآية 56)، فهو من باب التشويق ثم التذويق، بدأهم بشوق على أن يختمه بهذا الذوق، فيكون تذوق المؤمنين أعظم وأكمل وأعلى وأحلى وأغلى إذا ما باشروا الصلاة على المصطفى صلى الله عليه وسلم. لفتة أخرى قول الله تعالى: "يَا أَيُّهَا " استعمل الحق سبحانه وتعالى النداء للبعيد رغم أن المؤمنين قريبون من الله سبحانه وتعالى، فلماذا يا ترى لم ينادهم المولى بالهمزة الدالة على القرب؟!. قال أهل العلم لاعتبارين اثنين أو ثلاثة، الاعتبار الأول لعلو مرتبة المنادي وعظيم قدره لأنه هو الحق سبحانه وتعالى جلّ في علاه، واعتبار آخر هو علو مرتبة المنادى أي أن الذين آمنوا ليس شأنهم بهين فإن الله تعالى يهون عليه زوال الكعبة بينما لا يهون عليه زوال عبد مؤمن آمن بالله وبرسوله وصلى على الله ورسوله، وذلك مثل قولنا تماما "يا رب" فإن شرف المنادى يجعلنا نناديه بياء البعد رغم أنه أقرب إلى الإنسان من حبل الوريد، والاعتبار الثالث أن الله تعالى أنزل القريب منزلة البعيد لغفلته وسهوه كأنه يقول يا فلان ابن فلان يا من تغفل عن هذه العبادة يا من تعيش في سهو وغفلة ولهو، ألا أدلك على عمل من أشرف الأعمال: "صلّ على محمد صلى الله عليه وسلم". ثم إن لفتة أخرى تجرنا إلى الحديث عنها، وهي أن الخبر يدل على الاستمرار والدوام، لأنها جملة اسمية " إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ " دالة على دوام صلاة الله وصلاة الملائكة منذ الأزل، فختمها الله تعالى بأمر وهو جملة فعلية للدلالة على استمرار هذا العمل والتجدد وقتًا، ووقت دون انقطاع أبدا ولا نفاذ، فكأن الله تعالى وملائكته ضمنوا الشق الأزلي والأبدي في هذه الصلاة، وأمر الله تعالى المؤمنين أن يحققوا ديمومة هذه الصلاة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، فدلت الآية على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تزال صلوات الناس وصلاة الله وصلاة الملائكة تنزل على قبره الشريف صلى الله عليه وسلم. ثم لفتة أخرى كيف أن الله تعالى وصف رسوله بالنبي ولم يناديه باسمه، ولم يقل إن الله وملائكته يصلون على محمد أو على أحمد رغم أنه ذكر باسمه في بعض الآيات كما في قوله تعالى: " وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ " (سورة آل عمران: الآية 144) بخلاف الأنبياء جميعًا فإن الله تعالى عندما يناديهم يناديهم بأسمائهم " يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ " (سورة البقرة: الآية 35)، " قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِّنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَىٰ أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ " (سورة هود: الآية 48) ، " يَا مُوسَىٰ أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ " (سورة القصص: الآية 31) ، " يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ" (سورة ص: الآية 26) ، " إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَىٰ إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ " (سورة آل عمران: الآية 55)، بينما إذا نادى رسوله فإنه يقول له: "يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ" (سورة المائدة: الآية 41) ، "يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا " (سورة الأحزاب: الآية 45، " يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ " (سورة المزمل: الآية 1)، " يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ " (سورة المدثر: الآية 1)، كل ذلك لعظمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما خصه بصفة النبوة هاهنا لأن الرسول صلى الله عليه وسلم هو فاتحة النبوة في عالم الأرواح، وخاتمة النبوة في عالم الأشباح، ولذلك قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: "متى وجبت لك النبوة؟"، قال: "وجبت لي وآدم بين الروح والجسد"، وفي حديث أحمد: "إني عند الله لخاتم النبيين وإن آدم لمجندل في طينه"، إذن ختم الله تعالى النبوة بمحمد كما بدأ النبوة بمحمد صلى الله عليه وسلم، ولذلك أراد الله تعالى أن يلفت أذهاننا وعقولنا إلى هذه اللفتة القرآنية العظيمة، كيف أنه يصلي على أول الأنبياء في الأرواح، وآخر الأنبياء في الأشباح، ولذلك نصت هذه الآية على هذا المعنى الكريم. وفي الأخير، أنظر كيف لم يتأكد لفظ الصلاة بالمصدر كما في التسليم، فلم يقل الله تعالى "إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا صلاةً عليه وسلموا تسليما"، ولكن اكتفى بذكر المصدر في التسليم فقط، هل علمت لماذا؟، لا لشيء إلا كما قال أهل العلم، بأن الصلاة مؤكدة أصلاً بذكر صلاة الله وصلاة الملائكة، فلا تحتاج أبدًا إلى أن يذكر الله تعالى هذا التوكيد، فإن الصلاة تأكدت في الخبر تلويحًا، وفي نص الأمر تصريحًا، ولذلك اختلف الأمر، وإلى لقاء آخر أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.