محاولة للفهم (06) حكمة الله أن ينشأ الأنبياء على المهن والصنائع والتجارة ورعي الأغنام: " ما من نبيّ إلا ورعى الغنم "، كما أخبر بذلك النبيّ صلى الله عليه وسلم، وداود كان يمارس الحدادة " وألنا له الحديد "، وامتهن إبراهيم تجارة القماش، كما تذكر بعض الروايات، " وكان زكرياء نجارا "، كما جاء في الحديث الصحيح، وكان محمّد صلى الله عليه وسلم تاجرا، وقد رعى الغنم لأهل مكة قبل بعثته. وكل هذه المهن والصنائع، تجعل منهم أهل خلطة بالناس، فهم يدخلون أسواقهم، ويحتكون بهم احتكاكا مباشرا: " وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنّهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق "، وكان محمّد صلى الله عليه وسلم على نفس المنهج، قضى أربعين سنة قبل الوحي; مختلطا بقومه: " لقد لبثت فيكم عمرا من قبله أفلا تعقلون "، واستغربت دار الندوة وكهنتها عندما أعلن محمد صلى الله عليه وسلم رسالته، أن يكون النبي من رواد الأسواق ومرتادي الشوارع العامة: " وقالوا ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق ". فالتديّن عند الكهنة والمتاجرين به حالة عزلة عن النّاس; يمارسها الكهنة، ليتحكّموا أكثر في مصائر الناس عن بعد، بما يحيطون به أنفسهم من الهالة المصطنعة الكاذبة، التي تصوّرهم أحيانا لا يأكلون ولا يشربون ولا يرتادون المراحيض. التديّن عند الكهنة والسماسرة مبالغة في المظاهر والشكليات، تغطية لحالة الفراغ والعجز عن تقديم أيّ رؤية للإنسان. من أوّل ما نزل عليه الوحي، اقتحم النبي صلى الله عليه وسلم الأسواق، ومواسم الحجيج، رغم ما فيها من مظاهر الشرك، يدعو إلى دين التوحيد ويبحث في خضمها عن المناصرين والمؤيدين. الأسواق عند العرب كانت هي عمق الشارع الجماهيري، فيها يلتقي جميع الناس الأغنياء والفقراء، والسادة والعبيد، والرجال والنساء، من مختلف القبائل والبطون، واليهود والعرب والنصارى، ومن هم على دين الأحناف، فقد كان القسّ بن ساعدة الأيادي، وهو على ملة التوحيد قبل مجيء الإسلام، يخطب في سوق عكاظ، يدعو إلى فكرته وينبذ عبادة الأصنام والأحجار، ويذكّر النّاس بيوم يبعث فيه الخلق أجمعين. لقد كانت بلاد فارس تقع شمال الجزيرة العربية، وفي شمالها الغربي بلاد الروم ومصر، وفي غربها الجنوبي، وراء البحر، بلاد الحبشة، وفي جنوبها البحر الهندي يفصلها عن بلاد الهند، ومعظم تجارات العالم منذ القديم حتى القرون الوسطى بين هذه البلدان. لقد كانت بعض سياسات الروم أو فارس تمرّ عبر الأسواق، مستفيدة من الحضور الجماهيري المكثّف، فقد كان كسرى فارس، يهدي أحسن السيوف لأحسن عربي، في تظاهرة سوق عكاظ، ويستميله بعد ذلك إليه كأداة من أدوات التحكّم في المنطقة . وكانت هذه الأسواق مثل نشرة إخبارية، ينتقل عبرها الخبر بسرعة ليصل عبر القوافل المتحركة إلى نقاط واسعة من العالم آنذاك، وقد تعرّف هرقل الروم على بعض صفات النبي عن طريق قافلة تجارية كان فيها أبو سفيان. كما كانت الأسواق شبه جريدة رسمية، يعلن فيها النّسب وتعلن فيها البراءة من أحد القرابة، وتعلن غدرة فلان بن فلان، وتتناقلها الأخبار، كما كانت الأسواق مثل سوق عكاظ مجمّع أدبي ولغوي، تقام فيه المنافسات الشعرية والأدبية، وقد علّق العرب أحسن القصائد على جدار الكعبة. فالأسواق عند العرب كانت شريان المجتمع، و هي الشارع الجماهيري الحي، الحافل بالتناقضات، المشتمل على مختلف الممارسات المنكرة، في الجنس أو في التجارة والسلوك، وكان بعض العرب يفتحون دكاكين الدعارة لبعض إمائهم في الأسواق، حتى نهاهم الإسلام بعد ذلك عن هذا الفعل القبيح: " ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا ". كما كانت الأسواق مركزا للترويج لعبادة الآلهة، فقد كانت تباع فيها الأصنام وبركات الكهنة، وتقام فيها احتفالات صاخبة في موسم الحج، أو في مواسم أخرى، طلبا للرزق، أو ابتغاء نزول المطر. ولكل هذه الأسباب وهذه الأهمية الإستراتيجية للأسواق، باعتبارها شارعا جماهيريا مكتمل الوصف، بدأ فيها النبي صلى الله عليه وسلم دعوته، فقد روى جابر: " أنّ النبيّ قضى عشر سنوات يتبع الناس في مواسم مجنّة وعكاظ يبلغ رسالات ربه "، وكان يقتحم في كل موسم حج سوق ذي المجاز الذي كان يبعد عن مكة ب21 كلم شرقا، ودخل سوق مجنة الذي تبعه فيه عمّه أبو لهب يحذّر منه. وفي هذه الأسواق تمكّن من استقطاب أوّل نواة من المدينة، من الأوس والخزرج، ستحتضن لاحقا دعوته ودولته بالمدينة، وبسبب حركته الدائبة في الأسواق انتقل خبره إلى القرى المجاورة، فجاءه أبو ذر من غفار فأسلم. إنّ الدعوة التي تنشأ في الأسواق والشّارع الجماهيري من أوّل يوم، تولد ولادة طبيعية، وتعرّف بخصائصها من أوّل يوم، فهي دعوة بسيطة، جاءت تحرّر الإنسان، فلا يتحكّم فيه الكهنة برسومهم ومراسيمهم، وهالاتهم المصطنعة وطلاسمهم الغامضة. دعوة تنشأ في الأسواق من أوّل يوم، المؤكّد أنّها تعلن أنها مدنية لم تأت للقفز على حقائق الواقع، ولا لصناعة إنسان خارج واقعه، ولا لتشكيل مجتمع طوباوي يعيش على نموذج حالم، صنعه مخيال الوعاظ. الدعوة التي تنشأ في الأسواق تكون أكثر واقعية، وأكثر قربا من الإنسان، عكس التي تنشأ في المعابد المعزولة والمحنّطة بالوهم والخرافة، والحديث عن مجتمع لا وجود له حتى في ماضي الأنبياء وأولى العزم من الرسل. ولذلك لا عجب أن مسجد المدينة عندما أنشأه النبي صلى الله عليه وسلم لم يجعل له أبوابا، ليكون موصولا بالشارع الجماهيري الحي، حتى أن الكلاب كانت تلجه ولا يرش الصحابة مكان صلاتهم، ولم يكن يشعر أيّ إنسان بالعزلة عن المسجد فهو امتداد للشارع " وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا ".