في مرحلة التّأسيس وبسبب ضغوطات السّلطة والمطاردة، لجأت الحركة الإسلامية إلى (أسلوب التّخفّي) اقتداء بمنهج النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم في مرحلة مكّة ومارست منهجية (الفردية) في الدعوة والتربية والتّأهيل وخوفا من الاختراق وتحت هاجس الذّكريات الأليمة لعمل (البوليس السياسي) توغّلت أكثر في (الدهاليز) وبالغت في السّريّة وربّما كانت لها مبرّراتها في مرحلة نظام قمعي استبدادي ينتهك الدستور والقوانين، لكن هذه المرحلة بكلّ ما فيها من أسباب النّشأة الأولى والظّروف والملابسات والمبرّرات ستصبح لاحقا (بناء فكريا ) معتمدا في سير الحركة الإسلامية وانتشارها وانفتاحها وعملها. وأصبحت فكرة (البناء الخاص) للتنظيم الدّاخلي وثقافة الاستثناءات هي العلامة المميّزة للتنظيم داخليا وبحجة التحديات الخارجية ومكر الأعداء والخصوم وفكرة المؤامرة واستصحاب مشهد الذكريات الأليمة سُيّر التنظيم بثقافة هي أقرب للنّحلة وأقرب لمفهوم العمل العسكري، حيث تختفي حقوق الأفراد ولا تُضخّم إلاّ الواجبات. وقدّس التنظيم ذاته وجلّلها بكلّ ألقاب الفخار وصنع من حيث لم يشعر فجوة بينه وبين الجماهير التي لا تتواصل معه إلاّ عبر (القفة) والعمل الخيري أي علاقة المعطي والآخذ، بدل أن يحدث التفاعل معه من موقع " ما من نبيّ إلاّ ورعى الغنم "، واستعلى من حيث أراد التّميّز والتّمركز في موقع القدوة ونسي " ويمشي في الأسواق". خروج الحركة الإسلامية اليوم من تنظيم (الطائفة) إلى تنظيم (الشّعب) هو أوّل ما يجب أن تصحّحه من أخطائها ولن تكون تنظيما للشعب إلاّ إذا كسرت الحواجز المصطنعة التي جعلتها دارا خاصّة لا يدخلها إلاّ أهل الخصوصية. يقول أنس رضي الله عنه كاشفا طبيعة منهج النّبيّ صلى الله عليه وسلم " إن كان الرجل ليُسلم طمعا في الدنيا ثم ما يلبث أن تصبح الدنيا أبغض شيء إلى قلبه ". وعليها أن تفهم أنّها ليست مدرسة خاصة للمتفوّقين وأهل التّميّز أو أكاديمية لتكوين المتخصصين، إنّها حركة جماهيرية لا أبواب لها مفتوحة على النّاس جميعا وهذا هو السرّ الكبير في انتشارها وامتدادها في زمن الشّيخ حسن البنا، حيث تقول المصادر وصل عدد المنخرطين معه قرابة نصف مليون في زمن قياسي، ولا غرابة في ذلك ما دامت فضاءاتها آنذاك المقاهي والنوادي والجمعيات والشارع والنقابات والشركات والمزارع والمتاجر. لقد ظهرت الحركة الإسلامية كراية لتحريك قوى الجماهير نحو الهدف وكصوت مدوّ ينبّه للخطر دورها أن تكون مع النّاس فهي جزء نابض منهم وليس جسما متميّزا عنهم مهمّتها أن تكسر الحواجز بينها وبين النّاس لا أن تشيّد الأسوار العازلة، ألم يكن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم يطلب فقط " خلّوا بيني وبين النّاس"، ومن أجل ذلك تنازل في صلح الحديبية ليستفيد 10 سنوات من السلم والعافية تجعله على وصال دائم بالنّاس، وذلك سرّ المنهج كلّما اختلط بالنّاس امتدّ وتوسّع، وكلّما مارس الخصوصية انكمش وتحجّم. لم يمارس النّبيّ الخصوصية الداخلية إلاّ اضطرارا وأثناء سنوات الخصوصية الأربع فقط، كان يذهب إلى الأسواق حيث الانفتاح الواسع وإلى مواسم الحج لا يطلب فقط من يؤمن بدعوته بل من يحتضنه وله الجنة أي من هؤلاء الوافدين الجدد يتكرّم ويتولّى رعاية النبي وحفظه، وهذا مقام كبير يعني من اليوم الأوّل يصبح في هرم القيادة . لقد ظنّت الحركة الإسلامية أنّ الشّعب فقط أصوات انتخابية وأمواج بشرية في المظاهرات والاحتجاجات والتجمعات والإمضاءات والمساندات. لقد نجح التيار اليساري رغم محدوديته شعبيا في صناعة حالة وعي ديناميكية يقظة حيوية، عرف كيف يناضل باستمرار وبوعي وفي إطار القانون مستفيدا من الظّروف وباستعمال خطاب جماهيري بسيط وشعارات مفهومة ويمكن التفاعل معها ومطالب قابلة للتحقيق ولو على مراحل. أمّا الحركة الإسلامية فاستعلاء إيماني وخطاب رومانسي حالم ومطالب مستحيلة التحقيق وتحميل الجماهير مالاتطيق حتى ربما تنطق فتقول "أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا ". آن للحركة الإسلامية أن تراجع نفسها مراجعة عميقة ودقيقة وجريئة لكي تخرج من حالة الضّيق التي سجنت فيه نفسها وأن تكسر الأسوار التي شيّدتها كعوازل لتكون للشعب ومن الشعب كحركة الماء الهادئة العميقة النافعة. يتبع….