الحلقة الثالثة إنه الموت البطيء، هذا الذي يسمونه علاج كيميائي، إنه العلاج القاتل، وفعلا بعد أربع جرعات أخذتها "صبرينال" من العلاج الكيميائي، خاصة بعد الجرعة الرابعة، تقف إحدى البروفيسورات العظيمات بهذه المصلحة أمام سرير "صبرينال" وعلى مرأى ومسمع من جميع الأطفال ومرافقيهم قائلة: لقد قلت لكم أن "صبرينال" لن تشفى أبدا، انتهى الأمر، حتى لو أخذتموها إلى فرنسا أو أمريكا لن يفعلوا لها شيئا، ثم أنك سيدتي (وهي تخاطب زوجتي) لازلت صغيرة وبإمكانك أن تنجبي غيرها...خذوها للبيت تأكل وتشرب وتلعب مع أخيها إلى أن تأتي ساعتها... انفجرت أم "صبرينال" بالبكاء وأبكت جميع من كان بالقاعة، لقد حكمت البروفيسورة العظيمة بالموت على ابنتي الغالية حكما حضوريا علنيا، فهمته "صبرينال" التي أصبح عمرها ثلاث سنوات، وجعلها المرض تكبر لتعيش حياة أكبر من سنها بكثير... لم ترحم البروفيسورة دموع أم "صبرينال"، ولم ترحم حتى "صبرينال"، ولم ترحم حتى الأطفال والأمهات اللواتي كن يرين مصير أبنائهن من خلال ما قالته البروفيسورة عن حالة ابنتي... العجيب أنه بعد أيام قلائل، قمنا بالتحاليل على مستوى مركز بيار وماري كوري، وخرجت التحاليل تقول: أن نسبة الخلايا السرطانية أصبح يساوي صفر، أي أن الجرعة الرابعة أعطت نتائج جيدة، وكنا نظن أن "صبرينال" بدأت تتماثل للشفاء أو على الأقل أصبحت جاهزة لعملية زرع نخاع... وبجهود المحسنين نقلناها لإجراء فحوصات معمقة في مستشفى "سان لوي" بفرنسا، وكان البروفيسور "أندري باروشال" هو من كشف عنها، وبعد اطلاعه على ملفها الطبي والجرعات التي أخذتها بمستشفى بني مسوس، قال لوالدتها: إن الجرعة الأولى التي أخذتها "صبرينال" كانت خاطئة، حيث تم تغيير أحد مركباتها بمركب آخر. وبعد تحاليل معمقة، اكتشف أن نسبة الخلايا السرطانية وصلت على 24 بالمائة وليس صفر، كما ظهر في مركز بيار وماري كوري (حيث كانت الأنسجة فقيرة لا يعتد بنتائج تحليلها). رجعت "صبرينال" وأمها إلى الجزائر، وبدأت رحلة معاناة أخرى مع مستشفى بني مسوس، حيث بدأت مرحلة التهرب من الاحتفاظ بها في المستشفى، حيث ركزوا على ما أسماه البروفيسور باروشال بالعلاج الوقائي، حيث بدأت "صبرينال" تأخذ العلاج الكيميائي في شكل حقن صغيرة على الكتف أو الفخذ، عوض أن تأخذه بالآلة المخصصة لذلك، وكان الهدف منه التخفيف من آلامها وليس علاجها من المرض الخبيث. وفي مرحلة متقدمة شهرا ونصف قبل وفاتها أعطونا رسالة لمستشفى بوفاريك لتتابع علاجها به، علما أن مستشفى بوفاريك لا يحتوي على مصلحة لعلاج سرطان الأطفال، لكننا خضعنا للأمر الواقع فقد كانوا يرفضون استقبال "صبرينال" في مصلحتهم ببني مسوس بعد رجوع "صبرينال" من فرنسا ومواجهة أمها لهم بالملاحظات التي ذكرها البروفيسور باروشال.
في مستشفى بوفاريك، وبعد تدهور حالة "صبرينال"، اضطرت رئيسة قسم الأطفال أن تستقبلها في مصلحتها، وأعطتها الرعاية اللازمة، فقد كانت هذه الطبيبة رحيمة جدا بالأطفال الصغار، وخصصت ل"صبرينال" وأمها غرفة، ومعايير خاصة للنظافة والوقاية من الميكروبات... في مرحلة معينة من وجود "صبرينال" بمصلحة طب الأطفال ببوفاريك، رأت رئيسة القسم أن حالتها خطيرة جدا، وأنها تحتاج إلى رعاية متخصصة فاتصلت بمصلحة طب الأطفال بمستشفى بني مسوس، تحدثت إلى طبيبة "صبرينال" واصفة لها حالتها وضرورة أن تنقل إليهم، فما كان منها إلا أن أجابتها قائلة: أحقنيها بالصفائح الدموية وأرسليها للبيت...عندها انتفضت رئيسة القسم قائلة لها: إذا غابت عندكم الرحمة، فأنا لن أترك طفلة تتعذب أمام عيني ووبختها مذكرة إياها بأخلاقيات الطب... وفي اتصال آخر، أخبرتها أن البروفيسورة العظيمة بمستشفى بني مسوس ترفض استقبالها، فأدركت رئيسة قسم الأطفال بمستشفى بوفاريك أن مستشفى بني مسوس لا يريد أن يضيف رقما إلى سجل وفيات الأطفال بقسم الأطفال، حتى تبقى سجلاتهم نظيفة أمام وزارة الصحة، وأنهم يحققون نتائج جيدة في مكافحة سرطان الأطفال، مادام الأطفال يموتون في منازلهم أو في مستشفيات أخرى يوجهونهم إليها... في مصلحة طب الأطفال ببوفاريك، أصيبت "صبرينال" في أول مرة بنزيف، وكانت نسبة الكريات الدموية الحمراء أيضا منخفضة، فبحثت زوجتي عن الطبيبة المناوبة ولم تجدها، بعدها أخبرها الممرض المناوب أنها في مكان معين بعيد عن القسم في غرفة الراحة، ذهبت للبحث عنها، عندما أيقظتها أقامت الدنيا ولم تقعدها، وجاءت إلى المصلحة غاضبة ووبخت الممرض الذي دل زوجتي عليها ورفضت أن تحقن "صبرينال" بالدم، رغم أن التعليمة التي كتبتها رئيسة القسم تطلب ذلك بالفعل، ولم تخضع لطلب زوجتي إلا بعد أن اتصلت برئيسة القسم في بيتها التي أمرتها بأن تفعل ما تطلبه زوجتي وتطبق التعليمة المكتوبة...عندها بدأت زوجتي بالبكاء قالت لها صبرينال: أمي لا تبكي أنا أعلم أن "طاطا" -وتقصد الطبية-رفضت أن تعطيني الدم... تكرر هذا الأمر للمرة الثانية، وهذه المرة كانت الطبيبة نفسها موجودة بالمصلحة، وكلموني لأحضر ظنا منهم أن "صبرينال" تحتضر، كانت زوجتي تتوسل لهذه الطبيبة أن تحقن "صبرينال" بالصفائح التي أحضرتها لها (حيث كنت أحضر لها كل يوم الكمية التي تحتاجها من مركز حقن الدم بالبليدة)، ولم تخضع لطلبها إلا بعد اتصال من الطبيبة رئيس القسم. كانت "صبرينال" تصدر حركات غريبة، وكأنها شاة تحتضر عند ذبحها، لم تهدأ إلا بعد أن أعطيت الصفائح الدموية وعددا من الحقن، أتدرون ماذا كانت تقول تلك الطبيبة: إنها تحتضر انتهى أجلها، الحمد لله أنك هنا، لتكون معها ومع زوجتك، لقد وقعت هي الأخرى عقد وفاتها...ولم تكن تعلم هذه الطبيبة (المجرمة) أن "صبرينال" كانت تنزف داخل دماغها، فعوض أن تنقل إلى مصلحة جراحة الأعصاب على وجه الاستعجال إلى مستشفى "فرانس فانون" تركتها تنزف الليل بطوله إلى أن طلع علينا الفجر، فكانت "صبرينال" شاخصة البصر لا تتكلم، وكان هذا من علامات النزيف الدماغي... بمجرد أن حضرت رئيسة القسم، أمرت بأن ننقلها إلى مستشفى "فرانس فانون" لعمل أشعة دماغية (سكانير) وفعلا اكتشف أنها تنزف في دماغها، بقيت "صبرينال" ثلاثة أيام لا تتكلم وبصرها شاخص إلى السماء، في اليوم الرابع يوم 12 /02 /2008 ذهبت إلى العاصمة بغية أن أطلع على أول كتاب صدر لي، وأنا عائد كلمتني أم "صبرينال" قائلة إن "صبرينال" تريد أن تتحدث إلي، فرحت وكلمتها فقالت: بابا أرواح أرواح أرواح (أي تعال تعال...)، قلت نعم ابنتي أنا قادم أنا قادم يا غاليتي، أحبك..... عندما وصلت وجدتها تتنفس بصعوبة كبيرة، جلست إليها قلت لها أأقرأ لك شيئا من القرآن، فإن كنت موافقة شدي على يدي بقوة، ففعلت وبدأت أقرأ لها شيئا من القرآن، وهي تتنفس بتلك الطريقة المخيفة المرعبة، بعد أن هدأت وأحسست أنها نامت، ذهبت لصلاة العصر، ثم خطر ببالي أن أرسل رسالة عبر الجوال لأحد أصدقائي بمكة المكرمة، قائلا له: أسألك بالله أن تدعو ل"صبرينال" عند باب الكعبة فهي تعاني.... عندها رن هاتفي إذا بزوجتي تقول لي تعال بسرعة...دخلت غرفة ابنتي الغالية وجدتها ما تزال دافئة وقد التحقت بالرفيق الأعلى هللت وكبرت وسبحت وقلت إنا لله وإنا إليه راجعون لكنني لم أتمالك نفسي انفجرت بالبكاء، بكاء رحمة وحزن على فراق غاليتي التي تعذبت كثيرا في المستشفيات الجزائرية وعذبها أطباء فقدوا الرحمة والشفقة حتى على الأطفال، حاشى أولئك الذين لم تغيرهم الأيام وبقيت قلوبهم حية تحس بآلام الآخرين وما أكثرهم... في نفس اليوم قالت "صبرينال" لوالدتها أول ما نطقت: أمي أحبك كثيرا، لا تبكي، وكأنها توصيها بعدم البكاء بعد وفاتها، وكأنها أحست بقرب أجلها... يتبع