كانت مسيرةُ أمسِ الجمعة 5 أفريل، هي أوّلُ مسيرةٍ بعد استقالة الرئيس، ولذلك كانت مُتَمِيِّزَةً عن المسيرات السابقة، فكانت ممزوجةً بفرحةِ الانتصار، وَوَثْبَةِ العَزْمِ والاصرارِ على إسقاط بقيّة المطلوبين للسّقوط (يتنحّاو قاع)، كما حَمَلَتْ شعاراتٍ كثيرةً دلّتْ على درجةِ وَعْيِ المتظاهرين بأنَّ الطّريقَ مازال طويلاً، وأنّ ما ينتظرنا أكبر ممّا حقّقناه بكثير، فالآن فقط تبدأ مرحلَةُ البناء على أُسُسٍ سليمةٍ، التي يجب أن يتجنّد لها الجميع، حتى لا تُصَادرَ منّا نتائجُ ثورةِ الابتسامة، كما حَاوَلَ البعضُ أنْ يُصادِرَ منّا بَعْضَ نتائجِ ثَوْرَةِ التّحرير الكبرى، التي عَجَزْنَا بعدها أن نَبْنيَ دَوْلَةً ديمقراطيّةً قويّةً وعَادِلَةً، نتيجةَ الخياراتِ الخاطئةِ والالتفافِ والهروبِ إلى الأمام .. فالمُشكلةُ الأكبر، لا تتوقَّفُ فقط عند مستوى “يذهبون جميعا” أو (يتنحّاو قاع)، المشكلةُ الحقيقيّةُ تَكْمُنُ في “مَنْ يأتي بعدهم” وكيف يأتي هؤلاء الذين يأتون بعدهم؟ هل سيأتون بطريقة ديمقراطيّة، تكون فيها الكلمةُ الأولى للشّعب في اختيار مَنْ يَحْكُمُهُ بسيّادةٍ، أم سَيَتِمُّ الالتفافُ على الثورة السّلميّة، والهروبُ إلى الأمامِ مرّةً أُخْرَى، فلا نَنْتَبِهْ إلّا بعد عشرين سنةً أخرى أو أكثر؟.. وتضيعُ أعمارُنا بين تَغْيِيرِ وُجُوهٍ قَدِيمَةٍ بِوُجُوهٍ جديدةٍ، تَحْكُمُ بنفس الطَّريقَةِ القَدِيمَةِ التي تَجَاوَزَها الزّمَنُ.. هذه الفَرَضِيَّةُ، تُشْعِرُني بالخسارةِ والمرارةِ عميقاً، فأنا من جِيلٍ أضاعَ من عُمْرِهِ ثلاثينَ سنةً في انتظار دولةٍ ديمقراطيّةٍ عَادِلةٍ وقويّةٍ، يعيش فيها بِكرامةٍ غيرِ مَنْقُوصَةٍ، وحُرِّيَةٍ في المبادرة، وتكافؤ في الفرصِ، وعدالةٍ في تولّي المسؤوليّات.. فَمَا إنْ بَلَغْتُ سنَّ الرّشدِ السيّاسي، ودَخَلْتُ الجامعةَ، حتى اندلعتْ أحداثُ أكتوبر سنة 1988، حِينَها علّقوا كُلَّ هَزَائِمِهم على مَشْجَبِ طَرِيقَةِ التَّسيير السّابقة، غَيَّروا بعضَ الدِّيكور الخارجي، وأَوْهَمُونَا بِأَنَّنَا سنَنْتَقِلُ إلى ديمقراطيّةٍ حقيقيّةٍ، هي الأولى من نوعها في العالم الاسلامي، بَقَيْنَا ننتظرُ السَّرَابَ الذي حَسِبْنَاهُ ماءً، حتى إذا جِئْنَاهُ انفجرتْ العشريّةُ السّوداء، وهكذا ضَاعَتْ من أَعْمَارِنَا عَشْرُ سَنَواتٍ عِجَافٍ بِطَعْمِ الدَّمِ والخَوْفِ، ولم ننتقِلْ إلى الديمقراطيّة!.. في سنة 1999أَعَادُوا لَنَا الأَمَلَ من جَدِيد، وَعَدُونَا بِحُكْمٍ راشدٍ، تَعُودُ فيه الكرامةُ للجزائريّ، كان شِعَارُهُ “أرفع راسك يا بّا” وكان شعاره أيضاً “جزائر العزّة والكرامة”، بَقَيْنَا نترقّبُ، لكنْ سُرعانَ ما اكتشفنا السَّراب.. وكانت النتيجةُ أنْ ضَاعَتْ من أعمارنا عشرون سنةً أخرى، والمُحصِّلةُ أنْ سُرِقَتْ من أعمارنا ثلاثون سنَةً كَامِلَةً.. وها نحنُ قد هَرِمنا ولمّا تَتَحَقَّقْ بَعْدُ أمانينا في التَّحَوُّلِ إلى دولةٍ ديمقراطيَّةٍ حَقِيقِيَّةٍ، نختار فيها حكّامَنَا ومسؤولينا بحرِّيّة وشفافيّة، ونُحاسِبُهم أيضا بحريّةٍ وشفافيّة.. وعليه، فإنّ الحَرَاكَ الشَّعْبيَّ، لا يُضيفُ شيئا إذا تَوَقَّفَ عند مستوى “يتنحّاو قاع” فإنَّ عَلَيْهِ أَلَّا يتوقّف حتى نَصِلَ إلى مرحلة تَجسِيدِ الانتخابات الشَّفَّافَةِ والنَّزِيهَةِ، التي تُشْرِفُ عليها هيئاتٌ شَفَّافَةٌ ونزيهةٌ، إنّهَا أَوْلَوِيَّةُ أَوْلَوِيَّاتِ الحَراك التي يجِبُ أَنْ يَذْهَبَ إليها بِأقْصَرِ الطُّرُقِ، وفي أَسْرعِ وَقْتٍ.. هناك فقط يُمْكِنُ للحَراكِ الشَّعْبِيّ أن يُلْقِيَ عَصَاهُ.