حكى لي صديقٌ قصّةً واقعيّة، أُلَخِّصُها في ما يلي: كان أحدُهم من الأعيان المعروفين في المدينة،وكان مِمّنْ ينطبق عليهم المثل الشعبي الجزائري القائل:”صلاة القيّاد في الجمعة والأعياد”..لكنّه كان دائماً يحاول لفت الانتباه إليه وهو يتعبّدُ أو يقوم بأفعال الخير، جاء في أحد الأيام إلى الصلاة في المسجد، وكان يحاول جاهدا أن يراه الإمام، لكن الإمام لم ينتبه إليه، وبقي يحاول مراراً لفت انتباه الإمام إلى وجوده، غير أنّ الأخير لم ينتبه إليه، وبقِيَ الأمرُ كذلك حتى إذا وصل وقتُ إقامة الصلاة ولم يَنْتَبِهْ إليه الإمامُ بعد، وقف الرجل في الصف الأوّل مع المُصَلِّين وهو متأسِّفٌ جِدّاً لعدم حظوته بِنَظَرَةِ مُبَارَكَةٍ من الإمام، ولذلك بَقيَ مَهُوساً بِلَفْتِ نظر الإمام إلى وجوده بكلّ الطّرق، عندما أكمل الإمامُ قراءةَ الفاتحة، وكانت الصلاة جهريّة، رفع الرَّجُلُ الذي كان في الصف الأول صوتَه عاليا ومتميِّزا عن الجميع قائلاً: آآآآآآمين يا سيدي الطّالب!..أحياناً يكون لفتُ انتباهِ “سيدي الطالب” عند بعضِهم أهمُّ من الصلاةِ نفسها، والحديث يقاسُ بعضُه على بعض، ويُسحبُ على جميع المجالات: في التّدَيُّن، وفي السِّيّاسة، كما في الثّقافة.. ذكّرتني هذه القصّة بِنُكْتَةٍ أخرى حكاها لي صديقٌ ذات مرة عن أحدهم كان يتعمّد إِطَالَةَ صلاة النّافلة أمام أَعْيُنِ بعض معارفه، حتى إذا أثار انتباهَهُم، وأَثْنَوْا على كثرة نوافله، والتزامه بالخشوع في صلاته، لأنّه كان يُطيل الوقوفَ ويُطيل الركوعَ والسجودَ ويطيل الدّعاء.. عند ذلك انتشى الرّجلُ ولعب الرّياءُ والغرورُ وحبُّ الظهور برأسه، فقال لهم: هناك شيء آخر لا تَعرِفونه، إلى جانب كثرةِ صلاتي وكثرة خشوعي: لا تنسوا أنّني اليوم صائم!.. في أيّامنا هذه، ومع انتشار وسائل التّواصل الاجتماعي أصبح الاستعراضُ سهلاً، وأصبح التّسويقُ للمواقفِ غايَةً في حدِّ ذاته، فغدا الاشهارُ الذّاتيُّ لأعمال الخير التي يُفْتَرَضُ في بعضها أن تَتِمَّ في السّترِ منتشِرا بكثرة، وأصبحتْ الصّوَرُ والسِّيلفيّاتُ تَطالُ كُلَّ شيءٍ.. ولم تَبْقَ حِكراً على مجال واحدٍ فقط، بل انتقَلتْ إلى جميع المجالات، ففي المجال السيّاسي، مثلاً،أصبح هناك ما يُعرف بِنضال “السّيلفي” حيث أنّ هناك مَنْ لم يعرِف التّضحيّةَ بشيءٍ يوماً في حياته، ولم تكُن له أَيَّةُ اضافةٍ في محيطه القريب أو البعيد، ولكنّه بقدرةِ قادرٍ أصبح مُناضِلاً لا يُشَقُّ له غبار، بفضل مجموعةٍ من الصّور يَنْشُرها يوميّا بشكلٍ استعراضي.. والأمرُ نفسه يحدثُ في المجال الثقافي، فهناك من أصبح مُحلِّلا ثقافيّا كبيراً بسبب مجموعةٍ من الفيديوهات والصّور التي يُسَوِّقُهَا بشكل براغماتي مبالغ فيه، كما أصبح بعضُهم مُحلِّلاً استراتيجيّاً لمجرّد عبوره على بعض الحصص التّلفزيونيّة.. وهكذا في جميع المجالات.. على كلّ حال، يُمكن القول إنّنا في عصرٍ يَغلبُ فيه الاستعراضُ على الفعل الهادف والهادئ والعميق.