إنك إن لم تكن كاتبا من طراز معين لن تدخل التصنيف... إذا أردت أن تُعدَّ أديبا يُشار إليه بالبنان، فالسر يكمن في أمور عليك أن تتقن لعبتها... باختصار إذا أردت أن تكون من أدباء النخبة عليك أن تعرف أنه ليس مهما أسلوبك و بصمتك الخاصة ... المهم ما يرونه هم مهما ... الآن فهمت لماذا مات الكثير من أصحاب الفن الراقي معدمين مغمورين. كانت الكلمات تنساب من فمه كالحيِّات المتعطشة للقتل . لم يدر لماذا لم يجد حتى من ينوه لمجموعته التي قضى عشر سنوات ينمقها ثم ... هل كنت فاشلا إلى هذا الحد؟! لقد بنيتُ عليها أحلاما عريضة، حتى ظننتني الطيب صالح! ... و لقد رأيتني في التلفزيون ... و النقاد أقلامهم منبرية لي و عليَّ، و شغلتُ الصحف لزمن ... ومن لقاء إلى آخر ومن ندوة تتلوها ندوة يعقبها لقاء فضائي، و تنويه من وزير الثقافة، و استقبال في مدرج جامعي مع طلبة متعطشين لمعرفة سري الصغير، و آخرين فضوليين فقط ... هل تبلغ السذاجة بي إلى هذا الحد؟! كنت أراه يموت مع كل كلمة يقولها، كل حرف كان جرعة من السم يرتشفها. و في عينيه دمعة سجينة تريد الخلاص، و الرجولة تأبى إطلاق الأسير ... و الصمت الرهيب ... لا يريد النظر إليَّ مباشرة فاستوى بطريقة تجعلني أرى زاوية رأسه و أذنه الصغيرة السمراء. و عينه تحدق في أقصى السوق كمن يرى شيئا، و أنا على يقين أن بصره طائش فقط... انتبهتُ إلى خصام بين اثنين لم يسترعني كثيرا و لكنه كسر الهدوء بيننا و ألقى بتعليق لم أفهمه ... تناول كأس الشاي أمامه المنتصب على التراب، و ارتشف رشفة بصوت لم أتعوده منه... الشاي رفيق الدرب و متنفس الصدور... هناك سحر ما في الشاي. إنه غريب عنا من الصين و لكننا مفتونون به كأنه من صنع أيدينا، نحترمه جدا! نشتريه و لا نشترط على بائعه نظافة و لا كراسي، نحن نضحي لأجل كأس قد نمشي أميالا إلى فلان لأنه ماهر في إعداده، و نجلس على الأرض على أي أرض، و ندفع مالا مقابل رشفة. إنه مقدس في صحرائنا تخيل بيتا تنقصه بعض الأشياء خزانة فراش طعام هل تتخيل بيتا صحراويا من غير شاي؟! يثير شهواتنا جميعا و أنت تسمعه يندفع إلى الكوب من إبريقه الخاص، و يعمي العين بتلك الرغوة البديعة شبيهة بالألماس الخام كشخص انتابته حالة عصبية تتدلى رغوته من جانب فمه إنها تشبه إلى حد بعيد رغوة الجمل الهائج. تسحرنا ذهبيته تحس بعده بالثراء و أنت معدم.. إنه إدمان.. إدمان.. آه يا الأدب! أطلقها بصوت ثكلى تندب حظها. الأدب هو الخلق الحسن. لست أدري فأنا لا أذكر الآن من يكون من أئمة الهدى أرسلته أمه لطلب العلم و أوصته، قالت: خذ من أدبه قبل أن تأخذ من علمه. أرأيت الأدب هو الخلق الحسن، و تخيل أن فننا لم يطلق عليه لفظ غيره، لأنه يزرع في القارئ و الكاتب من قبله رهافة في الحس تجعله على خلق حسن. بهدوء لم يكن من عادتي تساءلت : ثم ماذا؟ ثم ماذا؟ سؤال وجيه على حد تعبير السياسيين عندما يُطرح عليهم سؤال يريدون أن يجيبوا عليه، أو بالأحرى يتقنون الإجابة عليه ... لا أدري ثم ماذا!! لكني لن أترجل، و سأكتب ما يحلو لي و ما أراه ... قد ينتشر أدبي في زمن آخر و ظرف آخر، عندما تولد عقليات تؤمن بالأدب لا بالنموذج ... ألا ترى يا صاحبي أنهم يريدون صورا طبق الأصل؟ ... أين التميز؟... أين الإبداع في أن نكون قوالب متماثلة؟... ألم يمت شعراء من الجوع في عصرهم. و بعد عصرهم أدهشتْ عبقريتهم الناس. أ لم يمت فنانون مفلسون و لوحاتهم تباع اليوم في المزادات بملايين الدولارات... سيأتي يومي! كنت أعتقد يقينا أنه لا يريد المناقشة، إنما يريد التنفيس عن عشر سنوات ذهبت في مهب الريح... لهذا اكتفيت بالإصغاء و التفكير في... *** *** *** علمتُ بعد لأي أنه باع سيارته القديمة و دفع جل ثمنها لمطبعة لطباعة مجموعته. لأن المطبعة لا توزع طاف بكتبه على المكاتب شرقا و غربا... و أُخبر أن الأدب لا سوق له. طاف بمجموعته على معارض الكتاب يدلل بها... و أخيرا!... بثمن خبزتين تشتري مجموعة قصصية بتوقيع صديقي.