تتضارب الأرقام والتصريحات بين الرسميين حول عدد الأشخاص من دون مأوى فتارة تهول من حدة الظاهرة معلنة عن وجود 31 ألف شخص من دون مأوى بالجزائر خلال السنة الماضية، وتخفف منها تارة أخرى، لكن سواء كبرت أو نقصت فإنها ستبقى تعبر دائما عن وجود فئة من المجتمع تنتظر أن تقل حركة المارة عبر شوارع العاصمة والمدن الكبرى وأن تغلق المحلات واجهاتها لتتخذ منها مراقد لها. تراجعت نسب الأشخاص من دون مأوى في السنوات الأخيرة حسب تصريحات أطراف من وزارة التضامن الوطني، الهيئة التي نصبت نفسها وصية للتكفل بهذه الفئة حتى وإن لم تكن الجهة الوحيدة المعنية بذلك، فكان من بين الإجراءات المتخذة لذلك زيادة عدد المراكز الخاصة باستقبال هؤلاء الأشخاص وتخصيص مراكز الإسعاف الاجتماعي، ما كان وراء تسجيل نسب منخفضة حسب ما أوضحه مدير مركز الإسعاف الاجتماعي لبئر خادم السيد عززان، في لقاء خاص جمعه ب ''الحوار'' نهاية الأسبوع الماضي، على هامش أحد الخرجات الميدانية التي ينظمها المركز مرتين أسبوعيا خلال الليالي الباردة لفصل الشتاء في العاصمة، والتي وقفت ''الحوار'' فيها على واقع هذه الشريحة المتجزئة من المجتمع والمنبوذة من قبله، واحتكت بها داخل وخارج الإسعاف الاجتماعي مركز الذي افتتح أبوابه منذ سنة فقط. ورصدت عبرها الوجه الحقيقي للعاصمة ليلا الذي لا تختلف لياليه عن بعضها سواء كانت عادية أو أيام أعياد مثلما هو حال ليلة خرجتنا الاستطلاعية ليلة رأس السنة الهجرية، فإن اجتمعت معظم العائلات الجزائرية ليلتها على مائدة العشاء الخاص، اجتمع الأشخاص من دون مأوى هنا وهناك كل حول نفسه محاولا وقاية نفسه من البرد ومن الاعتداءات المحتملة. تلقت ''الحوار'' دعوة من مدير مركز الإسعاف الاجتماعي لبئر خادم، لمشاركة أحد الفرق المتنقلة للإسعاف الاجتماعي في خرجة من خرجاتها الأسبوعية لشوارع العاصمة في إطار التكفل بالأشخاص من دون مأوى شتاء.كانت الساعة السابعة والنصف مساء عندما بلغنا أبواب المركز الذي لا يمكن لأي شخص أن يتفطن أنه مركز خاص باستقبال هذه الشريحة ، فمن الوهلة الأولى يخيل للواقف أمام مدخله أنه مدخل إحدى الإدارات تبعا لطريقة تصميمه، دخلنا المركز وكانت لنا جولة في مختلف أرجائه ونحن تحت مراقبة أعين خائفة لنزلائه من الأشخاص من دون مأوى، فالجميع هناك كان على علم بقدومنا وكنا متيقنين أن لكل واحد منهم رغبة في التحدث إلينا وطرح مشاكله علينا، إلا أن كرامة بعضهم وتخوف البعض الآخر حالت دون ذلك، واكتفينا في نهاية جولتنا الاستطلاعية للمركز قبل مغادرته والتقرب من هذه الشريحة في حالتها الأخرى بالشارع، بالحديث إلى الشاب عبد الحميد بوعرطي الذي سيتم نقله إلى مركز سيدي موسى لاستقبال الأشخاص في شدة.أشرف مدير المركز السيد عزازن شخصيا على جولتنا بالمكان، وأوضح أن المركز الذي يعد امتدادا في المساحة لديار الرحمة يختلف عنها في الأهداف والمهمة، فالمركز كما تنم عليه تسميته خاص بالإسعاف الاجتماعي للأشخاص في شدة ولا تتجاوز مدة استقبالهم فيه 48 ساعة، يتم نقلهم بعدها إلى مراكز خاصة وفقا لما تقتضيه كل حالة، وسرنا في جولتنا الاستطلاعية وفقا للمراحل التي يمر بها النزلاء لدخوله. المرحلة الأولى تكون باستقبال الشخص من دون مأوى مباشرة إلى الإدارة أين يوجد مكتب لتسجيل معلومات حوله وطاولة أخرى حولها كرسيان يستقبله فيها أخصائي نفساني يحضره للتأقلم مع وضعه بالمكان، قال مديره، يتوجه بعدها الشخص إلى غرف الاستحمام فيستحم ويحصل على ملابس نظيفة، فلا يعقل أن يرتدي ملابسه السابقة فالقوانين الداخلية لا تسمح بذلك، كما أننا، أضاف، نحتفظ له بها نظيفة بعد غسلها ونقدمها له لدى مغادرته المكان. ليتوجه بعدها إلى العيادة للخضوع للفحص الطبي العام وطب الأسنان أيضا للتأكد من سلامته الصحية، وعدم إصابته بأي من الأمراض المعدية التي قد تنتقل لبقية النزلاء الذين يتشاطر معهم نفس الغرفة؟ ليلة محرم ..الساعة الثامنة والربع كانت الساعة تشير إلى الثامنة والربع مساء، عندما أشار لنا المدير أننا قد تأخرنا قليلا عن الموعد المعتاد لخروج الفرقة، فتوجهنا إلى وسائل النقل المستعلمة لتأدية المهمة، سيارة إسعاف بها طبيب عام وممرض، وحافلة صغيرة تحمل أخصائيين نفسانيين، وسيارة المدير الذي يشرف شخصيا وفي كل مرة على هذه الخرجات التي علمنا منه أن الوزير ولد عباس يشارك فيها أيضا في بعض الأحيان.انطلقنا من بئر خادم متوجهين إلى شوارع قلب العاصمة، فبلغنا شارع ديدوش مراد أحد أكبر شوارع العاصمة، أكبرها مساحة وأكثرها قدرة على حمل وإيواء الأشخاص من دون مأوى. كنا نستقل سيارة الإسعاف رفقة المدير الذي كان دليلنا طيلة مدة الجولة، وهنا قام السائق المعتاد على هذا النوع من المهمات بتخفيف السرعة لتمكين بقية عناصر الفرقة المتنقلة للإسعاف الاجتماعي من ملاحظة الأشخاص من دون مأوى على ضفتي الشارع وبالتالي التقرب منهم واحدا واحدا، مررنا بسيدتين جالستين بالقرب من محل بيع الورود فأشرنا إليهما إلا أن المدير أوضح أنهما ليستا من ضمن الشريحة المستهدفة، فليستا من دون مأوى وإنما هما متسولان فقط بالعاصمة وتعودا إلى منزليهما بعدها خاصة وأن اليوم ليلة أول رأس السنة الهجرية، علهما تحصلان على صدقة أو زكاة من المحسنين وذوي القلوب الرحيمة. واصلنا مشوارنا لنتوقف بعد بضعة أمتار فقط متوجهين إلى الجانب المقابل من الشارع، كانت تجلس فيه وبالقرب من المقهى على آخر الزاوية المؤدية إلى النفق الجامعي، سيدة تبدو في الأربعينيات من عمرها تحمل بيدها طفلها الصغير والذي يبلغ من العمر سنتين تقريبا، اقترب منها الأخصائيون النفسانيون وراحوا يتعاملون معها بحذر في طرح أسئلتهم عليها، طالبن منها مرافقتهم لقضاء ليلة محرم في المركز، إلا أنها رفضت، وراح السيد عززان يطرح عليها الأسئلة مستفسرا عن سبب رفضها، فتبين أنها تعيش في الشارع منذ سنوات طويلة وأن جميع أفراد عائلتها يعيشون بفرنسا، فلم تجد سوى الشارع بعد طلاقها ليأويها وابنها، وأنها جربت المكوث في العديد من المراكز وسئمت رحلة التنقل بين المركز والآخر، ومن الاعتداءات التي تعرضت لها فيها ففقدت ثقتها نهائيا بما قد تحصل عليه من حماية على مستواها. تركناها وغادرنا الشارع متوجهين إلى شارع زيغوت يوسف المطل على ميناء الجزائر، فوجوده على الواجهة البحرية برياحها القوية ولفحات البرد القارس لتلك الليلة وغيرها من الليالي لم تمنع العديد من الأشخاص من اتخاذه مأوى لهم لقضاء الليلة، فتوقفنا مع بداية الشارع وتحديدا الجهة المقابلة لحديقة صوفيا بمحاذاة الحاجز الأمني لعناصر الشرطة، كانت تجلس سيدة عجوز تجاوزت الستين من العمر حسبما تظهرها ملامحها وتقاسيم وجهها، نزل الجميع والتفوا حولها من أخصائيين نفسانيين ومساعدين اجتماعيين وأطباء وممرضين فتذكرت وجوههم جميعا ، ورفضت الحديث إلينا بمجرد أن قدمنا عناصر الفريق لها خوفا من تصويرها وبعد جهد أقنعها الفريق أن الجميع يحترم حقها في عدم التقاط صور لها وهي في هذه الحالة وفقا لما تنص عليه قوانين حقوق الإنسان، فراحت تتحدث لهم وتسألهم عن حالهم مثلما سألوها عن حالها وطلبوا مها مرافقتهم إلى مركز الإسعاف الاجتماعي على الأقل من اجل الحصول على حمام ساخن، وملابس نظيفة، ووجبة عشاء ساخنة في جو عائلي، مذكرين إياها أنها قد أعطتهم مسبقا وعدا بمرافقتهم في مرة لاحقة ، إلا أنها غيرت رأيها هذه المرة ورفضت مرافقتهم، تقربنا منها لنطرح عليها بعض الأسئلة وكانت البداية من استفسارنا عن الضمادة التي تضعها على انفها فردت أن احد الشباب اعتدى عليها ضربا وهو في حالة سكر، فردت على سؤالنا لماذا لا ترافقينا إلى المركز إذن مع كل الاعتداءات والمخاطر التي تعترضك في الشارع، ''راني مليحة هنا ، ما خصني والو''، تفاجأنا لردها واستغربنا الأمر، ثم أضافت ''نطلب الموت''، وبينما نحن نتحدث إليها وهي جالسة في مكانها محاطة بكومة من ورق الكرتون تتخذه فراشا وغطاء، جاء شخص آخر من دون مأوى يبدو صديقا لها ألقى عليها التحية وتقرب منا لحمايتها، وسأله ناصر من الفرقة المتنقلة أن يرافقهم هو الآخر إلى المركز إلا أنه رفض وراح يقول'' راني مليح هنا ما خصني والو''، وعن طريقة كسبه لقمة العيش ردا بطريقة استشف من خلالها الجميع أنه معتاد على السرقة. الفئة المستهدفة هم المشردون الحقيقيون..لا نتقرب من المدمنين بلغنا شارع بور سعيد ''السكوار'' سابقا ونحن نتوقف من شخص لآخر رفضوا جميعهم التجاوب مع طريقة بيداغوجية الشارع التي يستعملها أفراد الفرقة المتنقلة، وكانت الساعة قد شارفت على العاشرة مساء، وجدنا فيه ثلاثة أشخاص نائمين على طول الشارع توقفنا للتقرب منهم، الأول كان جالسا لم يمانع من الحديث معنا وأطلعنا على أنه من وادي سوف، لكن رفض مرافقتنا إلى المركز، وتوجهنا إلى الشخص الثاني، رفض هو الآخر أن يرافقنا بينما لم يجرأ بقية العناصر على الاقتراب من الشخص الثالث. وفي طريقنا لمحنا مجموعة من الشباب جالسين على السور المطل على الشاطئ إلا أن المدير أطلعنا أنهم مجموعة من مدمني الكحول، ولا تقترب الفرقة من هذه الفئة إلا في خرجات خاصة تنسقها مع الأمن الوطن. عدنا أدراجنا متوجهين إلى شارع العقيد عميروش الذي اشتهر طيلة سنوات بإيوائه للأشخاص من دون مأوى والمجانين والمرضى العقليين، وهناك كان لقاؤنا بأحد الأشخاص الذي نجح عناصر الفرقة المتنقلة من اصطحابه إلى الحافلة، فبمجرد نزولنا وقد لمح وجه المدير، راح يردد بالفرنسية ''أهلا صديقي، كيف حالك؟''، واتضح أنه زار مركز الإسعاف الاجتماعي قبل أسبوع، وعاد إلى الشارع في انتظار أن يحصل على موافقة للتوجه إلى أحد المراكز لاستقبال الأشخاص في شدة في ولاية وهران، فرافقنا من دون أي موانع بمجرد أن اخبره المدير أن مركز وهران قد خصص له مكانا، وفي حديثنا معه بالحافلة ونحن في طريق العودة، أخبرنا قائلا، ''سأقول لكم بكل صراحة المركز هنا وبكل صراحة أفضل من مراكز فرنسا، وهذا المركز أفضل من بقية المراكز التي زرتها في الجزائر''.