من الأسباب التي دعتني إلى كتابة هذه الكلمة المتواضعة، فضلا عن الاحتفاء بالذكرى الثانية والثلاثين لوفاة الرئيس الراحل ''هواري بومدين''، الإشارة إلى تلك الكتابات والمؤلفات ذات الطابع التاريخي والسياسي، الصادرة عن بعض الأقلام المأجورة والنفوس المقهورة أو الموتورة، والتي مافتئت بالرغم من ذلك تمارس علينا في سادية معلنة، كل أنواع القمع الثقافي والتضليل الإعلامي، مسفهة في تعالم عقولنا وأحلامنا. مقزمة في تعال رموزنا وأعلامنا، مدعية أنها هي فقط من يمتلك الحقيقة، وأية حقيقة؟! إنها تلك الأباطيل التي كان ومازال يتبجح بها أسيادهم من السياسيين والمفكرين والعسكريين منذ 1830 إلى يومنا هذا، لكن الأمة الجزائرية الضاربة جذورها في أعماق التاريخ، المتأصلة عقيدتها في أغوار النفوس، أفسدت عليهم كل مخططاتهم من إبادة جماعية وتنصير قسري وتهجير بري وبحري، بل إنها ردت كيدهم إلى نحورهم، فاندحروا دون رجعة، يجرون أذيال الخزي والعار ذات يوم من شهر جويلية .1962 اليوم، يحاول بعض أدعياء العلم والثقافة بمفهومهما ''الكولونيالي'' مواصلة نشر ''رسالتهم التمدينية''، فتراهم لا يألون جهدا في اقتناص المناسبات لنفث سمومهم وتسويق بضاعتهم الكاسدة، متطاولين دون حياء على رموز هذه الأمة، مشككين تارة ومثبطين تارة أخرى، ولو أنهم اتعظوا بأسيادهم ومصادر نفاياتهم، لأدركوا أن هؤلاء - وقد تشبعوا وتحصنوا ضد ثقافة ''الشعور بالنقص'' و''الدونية'' إزاء الآخر مهما كانت عظمته - أن ما تلقوه ويتلقونه منهم، لا يعدو أن يكون قشورا ضامرة وأحقادا سافرة. وأكثر من هذا وذاك، ثقافة قاصرة ما برحت تفضح حقيقة نواياهم وأهواءهم المريضة بعقدة المغلوب على أمره، المهزوم في عقر داره، العالة على غيره تفكيرا وتدبيرا، ثم إن التاريخ سينبذ هذه الفئة الضالة، ويتبرأ حتما منها، فهي التي أرادت أن تبني مجدها على المآسي وجثث الأموات من الشهداء والزعماء !! أقول هذا، لأن الأمم والحضارات التي سادت ثم بادت أو السائدة حاليا، لم تنهض بتقويض ما أنجزه السابقون مهما كان بسيطا أو متواضعا، وإنما واصلت البناء تصحيحا وتعديلا وإبداعا، وهو ما يمثل - في نظري - تلك ''الإضافة النادرة'' التي تميز جيلا عن جيل آخر، فالهدم ثم البدء من جديد كمن يراوح مكانه، فلا هو انطلق فتحرر من عقده ووساوسه، ولا استقر أمره حتى يرى ما حوله ويعي أبعاده وأهدافه. في هذا السياق، الهادف إلى استثمار الماضي لبناء الحاضر والمستقبل وكذا، تثمين وتعزيز مآثر أعلام ورجالات الجزائر المعاصرين الذين بذلوا النفس والنفيس من أجل أن يحيا أبناؤهم في كنف الحرية والسيادة الكاملة... من بين هؤلاء، أخص بالذكر الرئيس الراحل هواري بومدين في ذكرى وفاته الثانية والثلاثين (1932- 1978)، هذا الرجل الفذ الذي أبلى بلاء حسنا في الجهادين: الأصغر، خلال الثورة التحريرية المظفرة، والأكبر خلال معركة البناء والتشييد، وإذ لا يسمح حيز النشر استعراض كل مآثره لكثافتها وتعددها على مدار أكثر من عشرين سنة من البذل والعطاء والتضحيات، فإنني أكتفي بالإشارة إلى تلك المعركة متعددة الأقطاب، معقدة العوامل والأسباب، والتي كانت استمرارا وتجسيدا لمبادئ بيان أول نوفمبر ,1954 وكل مواثيق وقرارات الثورة التحريرية، هذه الثورة التي آلت على نفسها أن لا تكون ثورة القضاء على الوجود الاستعماري-العسكري فقط، بل وعلى كل مخلفات ومظاهر تلك الحقبة السوداء التي عاشتها الجزائر خاصة، والشعوب المستعمرة في آسيا وإفريقيا وأمريكا الجنوبية عامة، من استغلال واستعباد وطمس الهوية والشخصية. إنها المعركة الحاسمة التي خاضها الزعيم الراحل رفقة فئة قليلة من الرجال المخلصين المحيطين به، ضد كل أنواع الاستغلال والحيف الاجتماعي وهذا بالدعوة إلى ''نظام اقتصادي دولي جديد'' باعتباره.. ''سبيل السلم الوحيدة، التي تمكن من إرساء تعاون دولي حقيقي، يقتضي تحولا جذريا للهياكل الاقتصادية العالمية الحالية ويلغي ذهنية الهيمنة والاستغلال والعودة إلى أفكار النظام القديم، إن تغيير الهياكل القائمة هو وحده الكفيل بتجسيد المعنى الحقيقي للتاريخ حتى يتطابق مع التطور الذي من طبيعته كذلك، ضمان التسوية المنسجمة للمعضلات الاقتصادية الراهنة وحفظ السلم والعدل في العالم»... بهذه العبارة البليغة، خاطب الرئيس الراحل هواري بومدين، الأمين العام للأمم المتحدة في 30/ 01 / .1974 طالبا منه إدراج الأفكار - المحاور الخمسة المذكورة أدناه، لمناقشتها أثناء انعقاد الدورة السادسة غير العادية، والتي ستطرح لأول مرة وبطريقة خاصة ''مشاكل المواد الأولية وعلاقتها بالتنمية'' في إطار ما أصبح يعرف بالنظام الاقتصادي الدولي الجديد الذي دعت إليه وقادته بقوة، الجزائر ممثلة في شخص رئيسها، والمحاور هي: 1 - ضرورة امتلاك الدول المتخلفة أو ''السائرة في طريق النمو''، مواردها الطبيعية. وهو ما يقتضي في المقام الأول، تأميم إنتاج واستغلال وتحويل هذه الموارد والتحكم في ميكانزمات وأدوات تحديد أسعارها. 2 - القيام بتنمية شاملة، منسجمة ومندمجة. تثمن كل الإمكانات الفلاحية والصناعية، على أن يتم تحويل كل الموارد الطبيعية في البلد المعني، سواء كانت هذه الموارد معادن أو منتجات فلاحيه.. إلخ. 3 - القيام بعمليات تضامن واسعة النطاق بين الشعوب، لفائدة البلدان المتخلفة، وهذا بمساهمة البلدان المتطورة، ماليا وتكنولوجيا. 4 - إعداد وتنفيذ ''برامج خاصة'' موجهة أساسا، للحصول على مساعدات مكثفة لفائدة الشعوب المصنفة من طرف الأممالمتحدة ''الأكثر فقرا''. 5 - إلغاء أو تخفيف أعباء التخلف وتقليص مظاهره التي تثقل كاهل الشعوب المتخلفة كالديون والبطالة مثلا. وهكذا، وخلال الفترة 1975-1973 تحديدا، برهن ''العالم الثالث'' بفضل مجهودات الرئيس الراحل هواري بومدين والدبلوماسية الجزائرية النشطة آنذاك، ولأول مرة في تاريخ الشعوب المتخلفة، أن النظام الاقتصادي المفروض من القوى المهيمنة عليه، لم يعد نظاما أبديا وغير قابل للتغيير، ذلك أنه بإمكان هذه الشعوب ومن خلال الأممالمتحدة، تقديم مشروع نظام اقتصادي بديل وأكثر عدلا، هذا وإن لم تبلغ الأفكار سالفة الذكر المرحلة العملية المرجوة، إلا أن إدراجها في تلك الظروف يعد نصرا في حد ذاته، ذلك أن الدول الكبرى كانت تبدي معارضة شديدة لهذه الأفكار، مؤيدة في نفس الوقت، بقاء الوضع القديم الذي أقره مؤتمر ''عصبة الأمم'' المنعقد في ''بروتون وودز'' في 01-22 جويلية 1944 بالولايات المتحدةالأمريكية، حيث تم فيه إنشاء بنك النقد الدولي (FMI) والبنك الدولي للإعمار والتنمية (BIRD)، وهو الوضع المرتكز على النظام الاقتصادي الرأسمالي، المتسبب في الأزمات الاقتصادية التي انهارت فيها اقتصاديات العالم كله، خلال السنوات 1973 ,1970 ,1929 وفي السنة 2008 أيضا. وفي تطور ملحوظ لتفعيل وتجسيد أفكار وآليات مشروع النظام الاقتصادي الجديد، فإن الجزائر قد بذلت جهودا مضنية، سواء على مستوى الأممالمتحدة ومنظماتها المتخصصة أو على مستوى المنظمات الجهوية، وخير مثال على ذلك المؤتمر الرابع لدول عدم الانحياز المنعقد بالجزائر في 05 - 09 / 09 / ,1973 الذي أعطى دينامكية جديدة للحركة، وذلك بتبنيه أفكارا تحررية قوية كان يعبر عنها وباستمرار، خلال الاجتماعات السابقة، وهو ما أفرز كذلك استراتيجية جديدة للمقاومة والتحول الراديكالي للعلاقات الاقتصادية الدولية القائمة، وحيث أن مؤتمر الجزائر كان الأهم من حيث عدد البلدان الحاضرة (76 بلدا) - بما في ذلك، بلدان أمريكا اللاتينية ومجموعة ''''77 ومنظمة الدول المصدرة للبترول (OPEP) - فقد اعتبر دون منازع، المرحلة النهائية المنشودة، التي جمعت دول عدم الانحياز حول أرضية عمل واضحة المعالم، أسفرت عن تنديد جماعي ومنظم بسياسة الهيمنة الشاملة للامبريالية ومن ثمة، الاتفاق على برنامج عمل يسمح للحركة بتنظيم حوار الند للند، مع الدول الكبرى... ... ومن جديد، تتحقق ''نبوءة'' الرئيس الراحل هواري بومدين ونظرته الناقدة للاقتصاد العالمي الرأسمالي القائم على الاستغلال الاقتصادي والهيمنة السياسية والعسكرية، كأدوات لبسط نفوذ الدول الاستعمارية دون مراعاة الواقع الاجتماعي للشعوب المتخلفة، المستقلة حديثا، إن الأزمة الاقتصادية التي يعيشها العالم عامة والولايات المتحدةالأمريكية خاصة ( مع التحفظ إزاء جديتها أو عدمها) هي نتيجة السياسة النقدية التي تهيمن عليها البنوك الربوية الرأسمالية في دورتها الاقتصادية، من حيث مستوى النمو ومستوى الاستهلاك: انخفاضا وارتفاعا، وفي غياب ميكانزمات ''عادلة'' تنظم التبادلات التجارية العالمية بطريقة تراعي الاختلالات الحاصلة في مجالات الإنتاج والاستثمار من جهة، والاستهلاك وأنواع التضخم من جهة أخرى. إن العالم المتخلف المتميز بهشاشة اقتصادياته، يجد نفسه عاجزا عن تجنب الآثار السلبية لهذه الأزمة، وهو ما يجعل الدعوة إلى نظام اقتصادي دولي جديد، ضرورة قائمة ومطلبا مشروعا يخدم مصالح كل الشعوب، فقيرها وغنيها على حد سواء، فهل آن الأوان لأبناء وأحفاد الرئيس الراحل هواري بومدين، أن يواصلوا تلك المعركة الرامية إلى إرساء وتجسيد هذا ''النظام'' فيتحقق حلم الشعوب المتخلفة التواقة دوما، إلى العدالة الاجتماعية والعيش الكريم، أم أن زمن ''هواري بومدين'' بمواصفاته ''الثورية'' ومعطياته ''الجيوسياسية'' السائدة آنذاك، قد ولى ولم يعد ينسجم مع الوضع العالمي الراهن، حيث يسود ''قانون الغاب'' باسم الديمقراطية ومحاربة الإرهاب وبالتالي، استمرار الهيمنة الامبريالية الجديدة كأداة من أدوات العولمة والقطبية الأحادية ؟!