تنبعث عبر أزقة زنقة لا بورت 9 رائحة الكاوكاو المحمص، فلا يمكن للمار من شارع جامع اليهود بساحة الشهداء أن يمرّ منه دون اشتمام الرائحة الطيبة للكاوكاو الذي يحمّصه الحاج صدوقي أحمد في كوشته العتيقة. وجدنا بدورنا الرائحة تطلب منا اتباعها من أجل التعرف على مصدرها وكأنها تمسك بيدنا كما هو الحال في الرسوم المتحركة، فوجدنا نفسنا في إحدى الخرجات الميدانية ل ''الحوار'' بالقصبة نصعد حوالي 50 درجة من الدرجات الضيقة والطويلة في نفس الوقت المؤدية إلى أعلى القصبة لنبلغ شارع لابورت 9 وتحديدا محل الحاج أحمد، الذي وافق على الحديث معنا بقلب محله أو الكوشة دون سابق موعد، خاصة عندما أبلغناه أننا تلقينا دعوة إلى المحل من قبل الرائحة التي تدعو جميع المارة إلى زيارته. فاغتنمنا الفرصة لننقل قصة هذه الكوشة وتعلق الحاج بها، مثلما اغتنم هو الآخر الفرصة ليطلق نداءه للسلطات المعنية، ويدعوها للمسارعة بترميم المحل المندرج ضمن ثرات القصبة. ''أعمل في هذا المحل منذ سنة 1948 وهو المحل الرابع، وبعد انهيار محلين آخرين بقي محلي هذا ومحل آخر في الزنيقة المقابلة، لازالا محتفظان بنفس الصنعة ولم ندخل أي تعديلات عليهما سواء من الناحية المعمارية أو من ناحية النشاط الممارس''، قال الحاج أحمد الذي يعدّ الآن الأعرق والأقدم بالقصبة، مضيفا ''عملت به طويلا، والآن وبعد أن أصبحت عجوزا وغير قادر على العمل المتعب، سلمت زمام الأمور إلى نسيبي وصديقي فهما المشرفان على العمل، بينما أكتفي أنا بالعمل نصف يوم فقط، حيث أجلس على كرسي صغير مصنوع من الخشب العتيق وأكتفي بوضع الكاوكاو المحمص داخل الأكياس الورقية''. وعن قصته مع الكوشة والعمل في تحميص الكاوكاو، يروي لنا الحاج صدوقي أحمد تفاصيلها بشيء من الحنين لرجوع الزمن إلى الوراء قليلا، فكما قال، تعلمت هذه الصنعة في سن جد مبكرة حيث كان والد زوجتي يعمل في هذا المجال وأنا كنت أزوره في المحل وأجلس بجانبه ألاحظ العمال وهم يقومون بمهمتهم في طهي الحلويات التقليدية من كعيكعات وبريوش، وكانت الطلبات تتوافد على المحل بكثرة فلا يفرغ العمال أبدا من مهمتهم، فهذا يراقب هذه الصينية وآخر تلك ويحرص على ألا يحترق ما بداخلها، كانوا يعملون بجد ولا يتعبون أبدا حتى في أيام الحرّ الشديد في فصل الصيف، فأعجبت كثيرا بحماسهم ونشاطهم النابع من إرادتهم في الحصول على لقمة العيش من الكسب الحلال، وهكذا كنت أشعر يوما بعد يوم بالانجذاب نحو هذه الصنعة، وقررت أن أعمل مع نسيبي في هذا المجال، وبما أن الكوشة ضيقة ولا تتسع لعدد كبير من العمال في آن واحد، قررت أن أعمل في التوزيع، فكنت أوصل الحلويات إلى أصحابها. إلا أنني ومنذ سنة 1958 تخصصت في تحميص الكاوكاو على مستوى الكوشة، وعندما كثرت الطلبيات صار العمل بالمحل يتطلب عددا أكبر من العمال وانتباها أكثر. رحلة الكاوكاو بالكوشة ... من 4 إلى 10 دينار للكيلوغرام توليت العمل بصفة رسمية في الكوشة، يقول الحاج أحمد، منذ سنة ,1958 ولم أغادرها منذ ذلك التاريخ، فزاد تعلقي بها وعشقي لها فلا أشعر براحتي إلا وأنا أعمل بالمحل، وتخصصت في تحميص الكاوكاو وذاع صيتي بين الزبائن فكثرت الطلبيات. في الماضي وعند شروعي في تحميص الكاوكاو حددت سعر 4 دينار للكيلوغرام الواحد، وكنت اجني حينها كثيرا ما يكفي لسد النفقات ودفع أجور العمال وحتى الادخار، نظرا لكثرة العمل، حيث يقصد المحل زبائن من مختلف أنحاء العاصمة وأحيانا حتى المناطق القريبة المجاورة لها، وغالبيتهم من باعة الجملة يحضرون الكاوكاو بكميات كبيرة ويعودون في اليوم الموالي لأخذه محمصا وجاهزا للبيع، وكان ولازال يقصدني بعض الصنايعية ممن يتخصصون في صناعة النوڤة. غير أن الزمن تغير، يتحسر الحاج، ويضيف، مع مرور الوقت بدأت رياح الأزمة الاقتصادية تعصف بنا فاضطرتنا للرفع تدريجيا من أسعارنا إلى أن بلغ اليوم ثمن تحميص الكيلوغرام الواحد من الكاوكاو 10 دنانير، ولكن الحمد لله لم يغير هذا السعر من إقبال زبائننا الأوفياء علينا، فلا بديل لهم عن نوعية عملنا، فلم نحرق يوما أي صينية كاوكاو، ولم نفسد أية طلبية، والجميع يشهد لنا بنزاهتنا وعدم غشنا في العمل إلى درجة جعلت من الآباء من أصحاب محلات بيع الجملة يوصون أبناءهم بالتعامل معنا بعد تسليمهم إياهم زمام العمل. نصف ساعة لتحميص الصينية الواحدة نمضي وقتا أطول في العمل أكثر مما يمكن تصوره فوجودنا بالمحل مرتبط بكمية الطلبات الموجودة على مستواه، أوضح الحاج في ردّه على سؤالنا المتعلق بمدى الجهد الذي يبذله العمال هنا خاصة في فصل الصيف، فحتى وإن زرنا المحل في عزّ فصل الشتاء شعرنا أننا سنختنق من شدة الحرّ ومن رائحة التحميص المنبعثة على بعد عدّة أمتار من المحل. وعن طريقة العمل وسرّه إن صح التعبير، الذي كشف عنه لنا الحاج دون أي تخوف، فليس هناك من ينافسه حتى يتخوف من كشف سرّ عمله، قال: ''تستغرق مدة تحميص الصينية الواحدة نصف الساعة علما أن سعة كل واحدة 3 كيلوغرامات، نقوم أولا بتغطية الصينية بأوراق الجرائد القديمة، ثم نضع الكاوكاو بداخلها بعدما نكون قد بللناه جيدا بالماء وملّحناه طبعا، وندخلها بعدها الفرن الذي يشتغل بالمازوت، ونحركها من حين إلى آخر باستعمال عصى طويلة، حتى لا تحترق الحبات فتتحمص جيدا دون أن تحترق. وتبقى محتفظة بالملح الذي يكون قد التصق بالحبات المبللة. فمهنتنا جد متعبة خاصة في فصل الصيف فنبدأ في العمل من الساعة السابعة صباحا، علما أن الطلبيات تزداد شتاء عكس ما يعتقد البعض انها تزاداد صيفا، والسبب وراء ذلك عدم إقبال الناس على اقتناء الكاوكاو بكثرة صيفا لتوجههم إلى المثلجات. نوعية النوڤة الجيدة تتوقف على نوعية الكاوكاو المستعمل خبرة الحاج الطويلة في هذه الصنعة، جعلت منه مرجعا لدى بقية الصنايعية، فزباؤنه ليسوا من أصحاب محلات بيع الكاوكاو بالجملة خاصة من منطقة القصبة ومنطقة العقيبة بحي بلوزداد، بل يقصد محله من ذاع صيتهم هم الآخرون في صنع الحلويات التقليدية، وخاصة من تخصصوا في صنع النوڤة بأنواعها المختلفة سواء البيضاء أو البنية اللون. ويضيف الحاج، نوعية النوڤة الجيدة تتوقف على نوعية الكاوكاو المستعمل، فإذا كان الكاوكاو غير جيد التحميص سواء محروقا أكثر من اللازم أو غير ناضج جيدا، طبعا ستكون النوڤة رديئة النوعية، وعليه نحرص شديد الحرص على تلبية طلبيات هذه الفئة من الزبائن على أكمل وجه، ما جعلنا نكسب ثقتهم جميعا ولا يستبدلوننا أبدا فظلوا أوفياء لنا ما دمنا أوفياء لهم بعدم غشنا إياهم أو خداعهم. أيام زمان... كنا نمضي سهرات رمضان بالمحل لطهي حلويات العيد للناس عادت الذاكرة بالحاج إلى الوراء، ونحن نسأله عما إذا كانت الطلبات تتزايد في شهر رمضان، حيث يكثر استهلاك الكاوكاو المحمص باجتماع العائلات والأهل والأحباب حول موائد الشاي في جلسات السمر التي لا تحلو إلى مع قرمشة الكاوكاو والمكسرات الأخرى. وراح يسرد لنا كيف كان يمضي سهراته أيام زمان، تلك الأيام التي كان فيها سكان القصبة يطهون حلويات العيد في الكوشة. كنا نمضي سهرات رمضان في المحل لطهي حلويات العيد للناس، قال الحاج ومساعدوه، فكنا نعمل نهارا في تحميص الكاوكاو ، وبعد الإفطار نطهو حلى العيد خاصة في النصف الثاني من الشهر الكريم، كما كنا نتلقى طلبات حفلات الختان ليلة النصف، فكنا نبقى بالمحل إلى موعد السحور، فنتسحر ونعود إلى بيوتنا لننام قليلا قبل استئناف العمل من جديد، لكن الآن ومع التقدم الذي تعرفه البلاد، أضاف الحاج، تغيرت الأوضاع، فالجميع يكسب فرنا بمنزله، فتفضل العائلات إعداد حلويات العيد في بيوتها خاصة وأن الناس لم يصبحوا كما في الماضي، يعدّون كميات كبيرة من الحلويات لتبادلها مع الأهل والجيران، فكل واحد يعدّ كمية قليلة يمكنه طهيها في منزله. كنا نطهو في شهر رمضان ما يتجاوز في الكثير من الأحيان مائتين و50 صينية حلويات عيد بمختلف أنواعها، وكل نوع منها يتطلب درجة حرارة معينة ومراقبة خاصة، فمنها ما تتطلب تشريبها بالعسل أو الشاربات مباشرة بعد إخراجها من الفرن كما هو حال البقلاوة مثلا. والأيام الخمسة الأخيرة من رمضان هي الأكثر إرهاقا بالنسبة لنا. الكوشة ستنهار لكن وعود السلطات بالترميم تعرف التماطل بوقادوم عبد الرحمان هو من اشترينا من عنده المحل، علما أنني المالك الثالث له، فالمحل جدّ عتيق وقديم قدم القصبة التي،كشف الحاج، بدأت في الانهيار بفعل الزمن وإهمال أصحابها لها، وكذا السلطات التي لم تتحرك من أجل إعادة الاعتبار لهذا المعلم التاريخي. مرت العديد من الشخصيات من محلنا واستمتعت بتذوق حبات الكاوكاو التي نحمصها، ونطلعها في كل مرة على وضع المحل الآيل للانهيار، لكن نتلقى وعودا فقط بترميمه، ولم نلحظ أي شيء على أرض الواقع، فهذا المحل مورد رزقنا الوحيد نحن الثلاثة، أضاف كل من حنيفي الطاهر وشرنان مولود العاملين بهذا المحل، منذ أزيد من 20 سنة. وقال هذان السيدان إن الزمن يغدر من جديد بالحاج أحمد فهو مجاهد إلا أنه ولافتقاده للأدلة لا يتقاضى منحة المجاهدين، وخاله مورسلي أعمر كان رفيق العقيد لطفي في الكفاح. وقال الحاج أحمد إنه أمضى مدة سنتين في سجن البرواڤية.