نشرت مجلة الهلال المصرية في عددها الثاني سنة (1977) الذي صادف صدوره وفاة الكاتب الروسي ذو الجنسية الأمريكية فلاديمير نابوكوف مقالا تحت عنوان ''مات فلاديمير نابوكوف صاحب رواية لوليتا'' و كانت الأخبار عقب وفاة هذا الروائي محصورة آنذاك في الإجابة عن أسئلة عديدة بادر بطرحها أولئك المهتمون بتقصي أسرار حيوات أعمدة الأدب العالمي. و نشر في نفس المجلة مقالا مطولا قدم الدكتور حسين مؤنس من خلاله أسباب شهرة الكاتب التي خرجت من العدم فالرجل كان أساسا عالم حشرات لكن بروز ''لوليتا'' في حياته خلال سنة 1955قلبت كيان الرجل رأسا على عقب. ينحدر فلاديمير نابوكوف من عائلة ميسورة إشتهرت بميلها إلى كل ما هو أنجلوساكسوني لغة ومظهرا و نمط حياة و ساعد إتقانها اللغة الإنجليزية و نفتاحها على الثقافة الإنجليزية عموما من ترسيخ نمط حياتها قلبا و قالبا . ولد الكاتب خلال سنة 1889بسان بيترسبورغ (روسيا) من طفولة هادئة قضاها بين أحضان المربيات الفرنسيات والإنجليزيات إلى صبا مفعما بزخم الرحلات المتكررة بين قصور العائلة، الكثيرة داخل روسيا وخارجها. طبع آل نابوكوف في صفحة الطفل فلاديمير ذلك الميل و الحب للثقافات الأجنبية وهو ما أثر في شبيبته التي قضاها في تحصيل العلم من خلال دراسة الآداب الفرنسية والإنجليزية بدون الحديث عن أصوله الروسية وتبعا لذلك نجده لا يتوان في الانتساب إلى جامعة ''كامبريدج'' بإنجلترا في أواخر عشرينيات القرن الماضي ثم نجده يستغل ضخامة جسده لتفريغ وهج وإندفاع الشبيبة في ممارسة رياضة الملاكمة لكنه يشتغل في الوقت نفسه بالآداب(1937) فينشر في صحف المهاجرين مختارات من القصائد الشعرية المترجمة عن الروسية. في سنة 1940 تفاجأ نابوكوف بطلب سلطات بلاده ضرورة الرجوع إلى روسيا لكن الرجل اشتم رائحة مكيدة في عز الحرب الباردة التي قسمت العالم ذات أبد، فاعتذر بلباقة لعدم وضوح الأسباب و اختار ركوب أول طائرة بإتجاه الولاياتالمتحدةالأمريكية التي مكث فيها ،و بعد مرور خمس سنوات (1945) من إقامته هناك تحصل على الجنسية الأمريكية . وفي زخم العالم الجديد غيّر نابوكوف من نمط حياته فطال التغيير تحصيله الدراسي الأدبي بعدما وجد نفسه يتوجه إلى البحث العلمي وقضى سنوات منصرفا إلى دراسة الحشرات و قد تحصل فيها على إجازة علمية مكنته من الإنتساب الى كلية العلوم بجامعة ''هارفارد'' بين سنوات 1942 و 1945 خلالها اكتشف فلاديمير نابوكوف نوعا جديدا من الحشرات سمي بإسمه! و في ذات السياق لم ينقطع الرجل عن عالم الأدب بنشاط لا مثيل له فكتب عدة أعمال عرفت النور عن طريق بعض دور النشر التي كانت تطبع أعماله من حين لآخر وفي سنة 1952 عيّن نابوكوف أستاذ الأدب الروسي في جامعة كورتل الأمريكية وبانت شهرته أكثر بسبب تمكنه من اللغة الإنجليزية ومن خلال خطاباته ومحاضراته التي كان يلقيها بين الحين والآخر أمام النخبة المثقفة في أمريكا وأصبح بدون منازع الروسي الذي علّم الأنجلو سكسون لغتهم. و تمثل روايته المشهورة '' لوليتا'' الصادرة عام 1955 نقطة تمفصل في حياة الرجل الأدبية على الإطلاق، وتبدأ حكاية خروج هذه الرواية إلى النور بمخاض عسير بدأ بدور النشر الأمريكية التي رفضت نشرها ، فطار بها صاحبها إلى باريس التي قبلت نشرها . وتعتبر ''لوليتا'' أول عمل روائي لنابوكوف، وهي تحكي قصة غريبة وخارجة عن المألوف، تدور أحداثها حول ولع مرضي لكهل بصبية في الثالثة عشر من أصل إسباني تسمى ''دولورس'' ويدللونها بإسم ''لوليتا''، وهذا المرض الغريب الذي يعرفه علم النفس بداء '' النيمفونيا'' أو الغرام بجنيات البحر نسبة إلى الفتاة الجريئة، يستغله نابوكوف لبناء حبكته الروائية الممتعة ذات الدرجة العالية من التشويق باستفزاز الغرائز المكبوتة لذلك الكهل المريض. أما الغريب في الأمر أن هذا الشذوذ كان يعاني منه بعض الروائيين الكبار من أمثال مارسيل بروست و جيمس جويس و جيمس فيتزجرالد و غيرهم. عرفت الرواية عند نشرها رواجا منقطع النظير بين الأدباء حتى الملتزمون منهم و النقاد و ذلك ظنا منهم أن تلك الإشارات اللاذعة عن الشذوذ إنما كان يقصد منها الأدباء السالف ذكرهم، وهو أول انطباع تركته الرواية عند صدورها ،لكن تبين أن ما جعل الرواية في متناول القاصي والداني هو جرأتها و تخطيها حدود الحشمة في التعاطي مع المواضيع الجنسية المسكوت عنها لدى عامة الناس، أو تلك التي تعود القراء إكتشافها في الأعمال الجديدة و من المنطقي أن تجد الرواية نفسها تحولت إلى فيلم جلب لنابوكوف شهرة ومالا وفيرا حولت الرجل إلى علم من أعلام الأدب وانتقل إلى مصاف الأغنياء. هذه النقلة النوعية جعلت الرجل يدخل في مغامرة روائية أخرى فنشر سنة 1962 روايته الثانية المعنونة '' النار الهامدة''Pale Fire ثم ينشر أخرى ثالثة بعنوان ''الدون'' the Don سنة 1963 و رواية رابعة موسومة ب ''أردو''سنة 1969 لكن واحدة من تلك الروايات لم يبلغ غرامها لدى القارئ ، غرام نابوكوف بجنيات البحر.