مثلما تتغير العادات الغذائية للجزائريين في شهر رمضان مثلما تعرف أسعار المواد الاستهلاكية هي الأخرى تغييرا من قبل التجار خصيصا في هذا الشهر الكريم. لكن هل حقا تخضع السوق الجزائرية لقانون العرض والطلب في تحديد الأسعار ؟ أم أن الجشع والمضاربة هما اللذان يتحكمان في توجيه الأسواق الوطنية ؟ عندما تسأل التجار عن السر في ارتفاع أسعار الكوسة ''القرعة'' مثلا أو ''الخس'' التي التهبت بشكل ملفت للانتباه يردون عليك بأن هذه المواد تكاليف إنتاجها باهظة لأنها في غير فصل إنتاجها، وهو مبرر يمكن الاقتناع به رغم أن لا أساس له من الصحة. خصوصا بعدما تحولت الزراعة تحت البيوت البلاستيكية إلى قاعدة في الجزائر منذ عدة سنوات وليس إلى مجرد حالات استثنائية. لكن عندما توجه نفس السؤال إلى الفلاحين والمنتجين تسمع منهم أشياء أخرى وتكتشف أن هناك العديد من ''الحواجز المزيفة'' التي تقف في الطريق قبل وصول المنتوج من الفلاح إلى المستهلك وتوجه أصابع الاتهام عادة إلى من يسمونهم السماسرة والمضاربين وتجار الجملة وغيرهم من الفئات التي تتحكم في شبكة النقل وتوزيع المنتوجات الفلاحية التي يتم بها تموين أسواق التجزئة . وهناك رأي ثالث يرجع موجة الغلاء والزيادة في الأسعار إلى سلوكيات الجزائريين أنفسهم الذين لا يحسنون تنظيم استهلاكهم خصوصا في شهر رمضان الذي يصل فيه البذخ والتبذير إلى أقصى حدوده، وهو ما يتسبب في ارتفاع الطلب بشكل كبير مما ينجم عنه التهاب الأسعار. هذه الصورة النمطية للأسعار والغلاء التي أضحت مألوفة ومعروفة مسبقا كلما جاء شهر رمضان وحتى في الأشهر الأخرى تطرح أكثر من علامة استفهام حول حقيقة ما يجري في السوق التجارية والانتاجية وسر غياب ''اليد الخفية'' التي يقال إنها تتدخل لتنظيم السوق أمام انسحاب الدولة في ظل اقتصاد السوق. ''لماذا لا ''يتدمقرط'' اللحم في الجزائر'' إذا كانت اللحوم الحمراء والبيضاء تعرف زيادات في الأسعار في شهر رمضان، فان ذلك يمكن تفهمه من باب أن الغالبية العظمى من موائد الجزائريين تتزين به شهر رمضان، وهو ما يعني زيادة في الطلب، لكن بالتأكيد لا يوجد نقص في العرض بعدما اضطرت الحكومة إلى غلق باب استيراد لحوم الأغنام من الخارج بالنظر إلى الوفرة في قطعان الأغنام التي تجاوز تعدادها في الجزائر ال 20 مليون رأس. ومن حق الموالين الذين اشتكوا من نقص العلف وتدهور أسعار الماشية جراء ذلك، الضغط على الحكومة لتحقيق مطالبهم في الحصول على الدعم المالي لحماية المهنة غير أنه لا يجب أن يتوقف الأمر عند حدود الشكوى، بل لابد أن يمتد البحث لمعرفة لماذا لا ''يتدمقرط'' اللحم في الجزائر، بل بقي محافظا على أسعاره المرتفعة حتى بعدما ضاقت حظيرة الأغنام والماعز ولم تعد تستوعب منطقة السهوب والهضاب العليا كل هذه الرؤوس من الماشية ؟ وليست اللحوم الحمراء والبيضاء هي وحدها التي لا تريد أن تنزل من برجها العالي وإنما هناك مواد أخرى رغم انعدام الاقبال عليها وتراجع الطلب بشأنها خصوصا في شهر رمضان، إلا أنها لا تنخفض أسعارها مثلما تقول قواعد اقتصاد السوق، وهو مؤشر على أن السوق تتحكم فيه الفوضى وأبعد ما يكون عن القواعد التجارية. وضمن هذا الصدد تعرف مواد العجائن والحبوب الجافة طيلة شهر رمضان غيابا كليا عن الموائد لكونها لا تجلب شهية الصائم ولا تتماشى مع السلوكات الاستهلاكية لهذا الشهر الكريم الذي تريد ربات البيوت فيه ''التفنن '' في المأكولات لاضفاء مزيد من الدفء وسط أفراد العائلة، خاصة وأنه الشهر الوحيد الذي يلتقى فيه كل أفراد العائلة حول مائدة الفطور دون غيره من شهور السنة الأخرى، لكن مع ذلك لم يبادر التجار بتغيير ملصقات أسعار العجائن والبقول الجافة ولو مؤقتا مثلما تقتضيه قواعد العرض والطلب التي يشدد عليها علماء الاقتصاد، وإنما بقيت أسعارها على حالها رغم أنها مكدسة في الرفوف، وهو ما يعني أن قواعد أخرى لا علاقة لها باقتصاد السوق هي التي تتحكم في المنظومة الاقتصادية والتجارية . بورصات الخارج لتبرير جشع الداخل قررت الحكومة بعدما أخضعت السوق إلى القوى الاحتكارية إلى اتخاذ تدابير وقائية لمنع انفراد أي متعامل اقتصادي بالاستحواذ على نسبة 43 بالمائة من السوق في أي منتوج استهلاكي، وجاء هذا القرار محصلة لحالة الفوضى التي تعرفها السوق الوطنية من حيث التمويل، المضاربة وارتفاع الأسعار بدون أي مبرر اقتصادي. غير أن هذه القرارات كانت محدودة الفعالية على غرار ما جرى مع أزمة البطاطا التي رغم إعفاء المستوردة منها من الرسوم الجمركية ،إلا أنها لم تساهم في ''تكسير'' الاسعار الاحتكارية التي فرضها أصحاب غرف التبريد الذين أخضعوا السوق لسلطتهم أمام عجز فرق التفتيش والرقابة لوزارة التجارة، وتكرر ذلك مع مادة الاسمنت وحديد البناء الذي دخل هو الآخر بورصة المضاربة مستغلين في ذلك الورشة الكبيرة للمشاريع المفتوحة في الجزائر وفي مقدمتها مشروع المليون سكن . ''وزارة التجارة مطالبة بمراقبة وتنظيم السوق في رمضان'' ومما زاد في تمكين السماسرة والمضاربين من فرض جبروتهم وإخضاع الأسعار لمنطقهم وليس لمنطق اقتصاد السوق، أن الجزائر لا زالت بعيدة عن الأسواق العالمية وعما يجري في البورصات العالمية، وهي التي تستورد أكثر من 30 مليار دولار سنويا حسب فاتورة الاستيراد لسنة 2007 . عدم التحكم في حقيقة الأسعار المعمول بها في الخارج هي التي شجعت أكثر شركات الاستيراد التي فاق عددها ال40 ألف الى تطبيق الأسعار التي تضمن لها الربح الوفير والسريع. ويسجل في هذا الإطار أن الكثير من السلع والمنتجات على غرار السكر والقهوة والزيت والحبوب والحليب ترتفع أسعارها في الجزائر بمجرد صعودها في البورصات الدولية، لكنها في المقابل لا تتبع منحنيات مؤشر البورصة عندما يكون متوجها نحو السقوط أو الانخفاض، وهو أمر لا يحدث مثيل له سوى في الجزائر رغم أن وزارة التجارة المكلفة بمراقبة تنظيم السوق تقول أنها تطبق في اقتصاد السوق. تحصي مصالح الجمارك الآلاف من حالات الغش والتزوير والتصريح الكاذب بشأن المستوردات التي يقوم بها اصحاب شركات الاستيراد، وهي فقط الحالات التي تمكن أعوان الجمارك من التفطن لها. وهذه الأوضاع هي جزء لا يتجزأ من الخلل والفوضى التي تعيشه السوق ويدفع فاتورته المواطن المستهلك، وما لم يتم التحكم في المنتوج سواء عند إنتاجه محليا أو استيراده من الخارج، فأي محاولة لتنظيم السوق تبقى ضربا من الأوهام أو في أحسن الأحوال تبقى حلول ترقيعية. ولعل طرح قضية ارتفاع الأسعار مع حلول رمضان من كل عام هو دليل على ذلك.