عندما يتعلق الأمر بملف القدس أو أي شأن فلسطيني وإسرائيلي تصر الدوائر المغلقة في الأردن على أن العنصر الحليف الذي يتقاطع مع عمان بشأن إبعاد شبح انطلاق «انتفاضة ثالثة» هو «الدولة العميقة» في كيان الاحتلال حيث مؤسسات عسكرية وأمنية واستخبارية لا تريد العودة لخيار المواجهة في الأراضي المحتلة. تم الاعتماد على هذا العامل في قراءة الموقف من ملف نقل السفارة الأمريكية إلى القدس وقبل ذلك في مسألة التوسع في المستوطنات ويتم الاعتماد عليه عندما يتعلق الأمر بمراقبة «الإرهاب» وتزويد الأردن بتقنيات المراقبة الجوية لما يجري في محيطه. طوال الوقت يتحدث مسؤولون أردنيون عن «الأمن الإسرائيلي» باعتباره صاحب مصلحة في التعاكس والتضاد مع اليمين المتطرف برئاسة بنيامين نتيناهو، حتى نصائح خبراء فلسطينيين من الداخل من وزن الدكتور أحمد الطيبي بخصوص «يمينية مؤسسات العسكر» الإسرائيلية تم تجاهلها مرات عدة في عمان. مؤخرا نصح طرف أوروبي عمان بما يلي: السلطة الفلسطينية في طريقها للاتفاق مع إسرائيل تفصيليا ونتنياهو يخطط للتحكم بالمنطقة برمتها وحجم الاتصالات بمبادرة من أطراف عربية وخليجية تحديدا مبالغ فيه وسيستغله الأخير. ترى أوساط في العاصمة عمان أن تزايد المخاوف الأردنية من إنجاز عباس لاتفاقات مع إسرائيل، يدفع إلى الرهان أردنيا على «مؤسسات عميقة عند العدو» والتعبير الأخير كان يستعمله وزير الخارجية الأردني الجديد عندما كان يعمل في الديوان الملكي. في الكواليس نفسها تجاهلت عمان الملاحظة التالية : الجنرال اليميني المتطرف الذي قال إن «دولة فلسطين في الأردن» وإن الملكية في آخر محطاتها في عمان هو اليوم نائب رئيس الأركان الإسرائيلي وخلال عام وتسعة أشهر قد يكون الرئيس، بمعنى أن اليمين يختطف حتى تلك المؤسسات العميقة في الكيان. في واشنطن وعلى هامش الوفد الأردني الرفيع الذي كان أول من يتفاعل باسم العرب مع طاقم دونالد ترامب وقبل الاستقبال الرسمي الحافل الأخير لنتنياهو في البيت الأبيض لم تتطرق المباحثات بقوة لملف «نقل السفارة» ولعملية السلام إلا عند اللقاء بكبير مستشاري ترامب وصهره المعين المحسوب تماما على اليمين الإسرائيلي جاريد كوشنر. دون ذلك يكشف مصدر غربي مطلع ل «القدس العربي لم تركز النقاشات الأردنية على ملف القدس بعدما تبين أن ملف «نقل السفارة» ساكن تماما ولا توجد عليه مستجدات عند طاقم ترامب. اليوم وبعد قمة نتنياهو- ترامب لا يمكن إيجاد ولو مسؤول أردني يستطيع الإشارة إلى أن «التفاهم» مع الدولة الموازية العميقة في الكيان الإسرائيلي ينسحب على الالتزام الأمريكي الجديد الذي حصل عليه نتنياهو أمس الأول في واشنطن ويجهز على «حل الدولتين». قبل إعلان ترامب لموقفه أبلغ وفد من لجنة الشؤون الخارجية في الكنيست عمان رسميا بالوثائق الجديدة والتشريعات التي تمنع وتحظر أي حكومة إسرائيلية مستقبلا من المصادقة على حل الدولتين. يقال إن هذه الوثائق تسلمها بقرار فردي متعجل وزير الخارجية الأسبق ناصر جوده، الأمر الذي سارع بانسحابه من منصبه لاحقا. يؤكد سياسي كبير من وزن الرئيس طاهر المصري وفي نقاشات متعددة مع «القدس العربي» بأنه لا يوجد ولا عنصر ضاغط واحد على إسرائيل يدفعها لمنح الجانب العربي أو حتى العالم حل الدولتين. قبل لقاء ترامب- نتنياهو توقع المصري أن يتمكن اليمين الإسرائيلي من بيع رواية»انتهاء حل الدولتين» في حديقة ترامب وتحت يافطة أنه مشروع يضر بعملية السلام. وجهة نظر المصري خبير الإسرائيليات البارز في عمان واضحة وبسيطة: اليمين يختطف كل شيء في الكيان الإسرائيلي ووضع النظام العربي الرسمي سيء للغاية ولا يوجد آفاق لتقديم أي شيء من أي نوع للعرب والفلسطينيين والكيان ذاهب وبقوة وعناد نحو «يهودية الدولة» وبالتالي «تصفية القضية الفلسطينية». تتوقف تأملات المصري ويرتفع الحذر والقلق عندما يطرح سؤال: تصفية القضية الفلسطينية أين وعلى حساب من؟ في نخبة القرار اليوم في الأردن لا يريد القوم مناقشة هذا السيناريو المرعب. لكن بوضوح لم يصدر عن الحكومة الأردنية ما يوحي بأنها تفاجأت بموقف ترامب وهو يعلن وفاة حل الدولتين ولا يوجد ما يدلل على الاعتراض أيضا. هذا يعني أن عمان إما بالصورة مسبقا وتعلم بالتفاصيل أو أنها في حالة «عجز تام» وبالتالي لا يمكنها فعل أي شيء ولو تحت بند شريك السلام الأهم والخبير في المنطقة أو الاعتماد والرهان على ما يسمى بالكيان العميق في إسرائيل. بكل الأحوال ما نتج عن لقاء نتنياهو- ترامب لا يدفن فقط مشروع الدولتين بل الإستراتيجية الأردنية برمتها بخصوص عملية السلام ويعاكس وهذا الأهم المقولة التاريخية لمهندس اتفاقية وادي عربه الشهيرة الدكتور عبد السلام المجالي عندما صرح بأن الاتفاقية الموقعة «تدفن الوطن البديل». تراجع المجالي العام الماضي علنا عن تصريحه واليوم لا يجد المصري ما يمنعه من التعبير عن مخاوفه ليس فقط من عدم وجود ما يدفع إسرائيل للقبول بفكرة «الخيار الأردني» بل من إنعاش واضح لسيناريو الوطن البديل عبر مؤامرة مزدوجة على الأردنيينوالفلسطينيين معا. ليس صحيحا أن الأردن بموجب البروتوكولات الجديدة قد يحظى ب «دور فاعل» في الضفة الغربية وقد يتوسع. ويبدو متسرعا ذلك الرأي الأردني الذي عبر عنه وزير التنمية السياسية السابق الدكتور صبري إربيحات بصيغة، «حسنا تريدون دفن خيار الدولتين، فلنتحدث إذا عن دولة ديمقراطية واحدة لشعبين». ليس ذلك ما قد يحصل بتقدير خبيرين من وزن المصري وعدنان أبوعودة بل تصفية القضية تماما وإعادة احتلال الأرض وإنهاء فكرة الدولة الواحدة أيضا واستغلال المناخ الدولي والإقليمي لتدشين «ترانسفير» بطيء ومنهجي طويل الأمد يلوح مجددا بخيار «الوطن البديل» أو حتى يصنع بديلا للوطنين الأصيلين. لافت جدا جدا أن طبقة الإدارة الأردنية الحاكم اليوم يواجه كل هذه التعقيدات بدون وجود ولو مثقف سياسي واحد أو خبير إسرائيليات حقيقي في طاقم القرار، الأمر الذي يدفع للغرق في «التخمين»، تلك طبعا إشكالية أخرى وعتيقة.