محمد كريشان في تونس تتوالى الإشارات الحمراء ولا أحد يتوقف. هذه المرة، ليست إشارات المرور لكنها إشارات حمراء خطيرة عن الوضع الاقتصادي وما الذي يمكن أن يجره على البلاد من ويلات في المدى القريب. قبل أسابع قليلة تحدث بصراحة صادمة وزير المالية بالنيابة فاضل عبد الكافي، الذي استقال مؤخرا ولم يعوض إلى حد الآن، أمام جلسة عامة للبرلمان فقال إن السيولة المالية للدولة التونسية تنزل في بعض الأحيان إلى مستوى لا يتيح دفع الأجور الشهرية للموظفين وأن قرض ال 500 مليون يورو الذي وافق عليه البرلمان في الجلسة نفسها لم يكن منه بد لأنه ببساطة شديدة مخصص لدفع أجور آب/ أغسطس وأيلول/ سبتمبر لا غير. وكأن هذه الصدمة لا تكفي… فتحت عنوان «الاقتصاد الوطني ينهار والأزمة تحتد» جمعت جريدة «الصباح» التونسية اليومية قبل بضعة أيام جملة من التقييمات لشخصيات غير عادية. إنهم وزراء مالية سابقون، كل واحد منهم بدا مخيفا أكثر من الآخر، فماذا قالوا؟ إلياس الجويني الوزير المكلف بالإصلاحات الاقتصادية في حكومة محمد الغنوشي إبان الثورة على نظام بن علي عام 2011 والمستشار لدى حكومة قايد السبسي التي شكلت بعدها يرى أن ” تونس في حاجة إلى صدمة متعددة الأبعاد للخروج من هذا الوضع المتشابك»، معتبرا البلد واقعا «وسط إعصار مدمر ينعكس جليا في انخرام ميزانية الدولة وما يتطلبه ذلك من اللجوء إلى اقتراض تتزايد كلفته باستمرار». إلياس الفخفاخ وزير المالية بين 2012 و 2014 أكد أنه : «لا توجد اليوم إجراءات فعلية للحد من التدهور الكبير للاقتصاد التونسي ولا توجد إصلاحات ملموسة تجعلنا ننظر إلى الغد بتفاؤل»، مشيرا هنا إلى أن «نسبة المديونية بلغت هذا العام 75 في المئة وذلك بتطور كبير عما كان 2014 حيث بلغت 47 في المئة فيما كانت عام 2010، 40 فقط». الاسوأ مما سبق قول وزير المالية السابق أن المشكل كذلك أنه «يبدو وكأننا اعتدنا على هذا الوضع والقبول به وهذا شيء خطير جدا»، داعيا إلى «ضرورة الحد من النفقات العامة وزيادات الأجور وحجم الدعم الذي يذهب 70 في المئة لغير مستحقيه وهو ما يكلف الدولة كثيرا». حسين الديماسي، وزير المالية الأسبق لفترة وجيزة، والذي عرف قبل ذلك بنشاطه النقابي وإشرافه على دراسات في صلب المركزية النقابية «الاتحاد العام التونسي للشغل « أشار إلى مجموعة مؤشرات مقلقة ساهمت في تخفيض وكالة «موديز» التصنيف السيدي لتونس من بينها أن «الميزان التجاري يعاني عجزا لا يطاق وغير موضوعي وصل آخر تموز/ يوليو 8 فاصل 6 مليار وهذا شيء مفزع ومخيف»، فضلا عن «أن نسبة عجز ميزانية الدولة لا تزال مرتفعة وتقدر إلى حدود أواخر آيار/ مايو الماضي بخمسة في المئة من الناتج الخام وهي نسبة مرتفعة جدا»، ولم يتردد هذا النقابي السابق في الاعتراف بأن «الإضرابات والاعتصامات أثرت بدورها على التصنيف السيادي لتونس» علما أن عدد الإضرابات في تونس قد يكون دخل سجل «غينيس» للأرقام القياسية. ويشير البعض إلى أن الديماسي استقال من الحكومة لأنه عرض عليها مجموعة من الإجراءات الحتمية المؤلمة لكنها رفضتها مفضلة عدم المجازفة بشعبيتها في سبيل ذلك. لم تكتف الصحيفة التونسية بوزراء المالية السابقين بل أوردت آراء لعدد من الخبراء زادوا في رسم ملامح مشهد قاتم جدا، من ذلك أن الخبير الاقتصادي محمد صالح الجنادي رأى أن «المعركة السياسية في البلاد عطلت مسار الإصلاح الحكومي وكان من المفروض أن تكون المعركة اقتصادية بفرض حكومة اقتصاد حرب»، محددا ملامح مثل هذا الاقتصاد ب «تقشف الحكومة في النفقات في الميزانية والتخلي عن الدعم في المواد غير الأساسية وفرض سياسة جبائية تصاعدية وجباية عادلة والتخلص من المديونية تدريجيا وتقليص العجز التجاري وخلق منافذ لإصلاحات تمس المؤسسات الصناعية وتطويرها والترفيع في نسق التصدير». أما الخبير الاقتصادي عز الدين سعيدان فرأى أن أكبر دليل على الوضع المالي الخطير في البلاد أنه «إلى حد الآن لم توضع بعد الخطوط العريضة لقانون المالية 2018 المفروض أن يصادق عليها البرلمان قبل 10 ديسمبر/كانون الأول». وأضاف أن تخفيض «موديز» للتصنيف السيادي للبلاد يعني أنها تقول لشركائها أن «تونس يمكن أن تكون غير قادرة على الإيفاء بالتزاماتها المالية ودفع أقساط القروض الخارجية بحلول آجال تسديدها». المفارقة المؤلمة أن الطبقة السياسية في البلاد، سلطة ومعارضة ونخبة، تبدو وكأنها غير معنية بهذه اللوحة الاقتصادية شديدة القتامة. إنها غارقة في حسابات ومواءمات ومناكفات سياسية لا علاقة لها بوضع البلاد الاقتصادي والاجتماعي الذي يزداد سوءا مع الأيام. إنها أشبه ما تكون بمجموعة ارتضت لنفسها أن تنغمس في سجالات هنا أو هناك وهي في مركب تزداد ثقبه ويوشك أن يغرق. لهذا كان الجويني محقا حين قال إن «استرجاع الحكومة لشعبيتها لا ينبغي أن يكون هدفا في حد ذاته لكن لا بد استغلاله في حربها من أجل العدالة الجبائية والقضاء على التجارة الموازية وانعاش الاقتصاد». ومع أهمية الحرب التي أعلنتها الحكومة على الفساد، إلا أن المطلوب من الحكومة أكبر من ذلك بكثير ليس فقط حتى لا تكون هذه الحرب ظرفية وانتقائية وإنما حتى تتوسع الحملة لتشمل اتخاذ قرارات اقتصادية موجعة حتى لا تسير تونس نحو السيناريو اليوناني، على ما يحذر البعض. عندما تقف على حقيقة الوضع الاقتصادي المخيف في تونس، تدرك مدى عبثية النقاشات الدائرة حاليا بين السياسيين ووسائل الإعلام، المغرق بعضها في التفاهة والسطحية. كل هؤلاء بلغة كرة القدم…. جميعهم في التسلل.