لم يكتب لآنا غريكي أن تستشهد في غياهب السجون والمعتقلات الاستعمارية الفرنسية التي جرّبت أهوالها إلى جانب المناضلات الجزائريات، وماتت في الجزائر العاصمة في السادس من جانفي 1966 أثناء نفاس عسير. وكانت آنا غريكي مناضلة راسخة الإيمان في عدالة قضية الجزائريين، وشاعرة أفصحت بصدق عن سرائر روحها الثائرة، وأسرّت لنا بما غمر قلبها من حرارة التضامن والمشاركة في ديوان يتيم رأى النور، وهي على قيد الحياة. هذا الديوان وسمته الشاعرة ''بالجزائر عاصمتها الجزائر''. والعنوان ليس حشوا زائدا عن أصل المعنى، لأن المعنى هنا هو مرافعة شجاعة ضد من أنكروا على الجزائر وجودها في التاريخ. ويحمل الديوان في ترجمته العربية عنوانا أجمل هو ''جزائر يا حلوتي''. ولعل المترجم رأى في ذلك ما يترجم أفضل تلك الأحلام والتطلعات والآمال التي حملها جيل كامل من الجزائريين وأصدقاء الجزائر في السنوات الأولى التي أعقبت الاستقلال. وكانت من بينهم، بطبيعة الحال، آنا غريكي. لكن ما يؤسف له، حقا، هو أن آنا غريكي تكاد تكون اليوم مجهولة. فالمعلومات المتوفرة عنها شحيحة وأصدقاؤها لم يخلّفوا لنا عنها أيّ شيء يذكر، ماعدا نتَف من سيرتها جمعها الباحث جون ديجو في ''معجم المؤلفين المغاربة ذوي التعبير الفرنسي''، والمقدمة الرائعة التي كتبها مصطفى الأشرف لديوانها ''الجزائر عاصمتها الجزائر''. كما لم تحظ هذه الشاعرة باهتمام مؤرخي الأدب والباحثين الجامعيين سواء في الجزائر أو فرنسا. تقول المعلومات الشحيحة إن آنا غريكي ولدت في 14 مارس 1931 بباتنة، اسمها الحقيقي كوليت آنا غريغوار زوجة مالكي. أمضت طفولتها في المنيعة بالأوراس، حيث كان أبوها مدرّسا، والتحقت بالمدرسة الابتدائية في مدينة القلّ، ثم تابعت دراستها الثانوية في سكيكدة، وسافرت بعد ذلك إلى باريس لمواصلة دراستها الجامعية، لكنها سرعان ما تخلّت عن الجامعة، وعادت إلى الجزائر، والتحقت بسلك التعليم في مدينة عنابة، ثم في الجزائر العاصمة. وانخرطت في النضال إلى جانب جماعة من اليساريين والليبراليين. وفي مارس,1957 في زمن الإرهاب الأعمى لمظليي العقيد بيجار، اعتقلت وعذّبت وعرفت زنزانات سجن برباروس الرهيبة، ثم حوّلت إلى محتشد بني مسوس، قبل أن تنفى إلى تونس في أواخر سنة .1958 في السنوات الأولى للاستقلال اشتغلت في الإدارة، ثم أنهت دراستها العليا في جامعة الجزائر، وأصبحت مدرّسة للأدب في ثانوية الأمير عبد القادر. توفيت آنا غريكي في 6 جانفي 1966، وعمرها 35 سنة. ولم يسمح لها قصر العمر، وقسوة السنوات التي قضتها في السجون الاستعمارية أن تكرّس حياتها للإبداع الشعري. فباستثناء الديوان الذي جئنا على ذكره، جمعت بعد موتها بعض أشعارها في ديوان آخر صدر بعنوان ''زمن صعب''. وقام الأديب التونسي الطاهر الشريعة بترجمة ديوانها الأول إلى العربية والتقديم له، ونشر الديوان بنصيه الفرنسي والعربي في تونس سنة .1963 وكرّمها اتحاد الكتاب بإصدار كتيّب بعنوان ''تخليدا لآنا غريكي''. ولم أعثر فيما بحثت من أعمال الشاعرة إلا على مقالة منشورة في مجلة ''حضور إفريقي'' بعنوان ''نظريات حجج ووقائع'' تطرح فيها تصوّرها لوظيفة الأديب ومهام الأدب التي تراها في عمق النزعة الإنسانية وصدق تصوير الواقع. ولا أجد هنا أجمل مما قاله في شعرها مصطفى الأشرف والطاهر الشريعة. يقول الأشرف ''شعرها شعر ذكرى، وليس توقا متكلّفا، شعر الحنان القويّ السليم والغضب المحرّض. إن هذه المرأة الشابة تحمل في كلّ ما تكتب علامات نبوغ العظماء والشعراء الذين لا يصدّهم عذاب أو مرارة أو يأس، الذين يحملون في قلوبهم ليس فقط هوس الحياة والحب والكراهية، لكن أيضا وخاصة الإيمان الشرس في مستقبل النضال والرقيّ''. أما الطاهر الشريعة، فقد كان يخشى، وهو يترجم شعر آنا غريكي إلى العربية، ألا يوفّق في نقل قوّة الانفعال، وحرارة الثورة، ودفء المحبّة، وبهاء الترنّم بالوطن الغالي العزيز. لقد ذهبت آنا غريكي ضحية للنسيان المتعمد، فلا الفرنسيون عدوه منهم رغم أصلها الفرنسي، ولا الجزائريون اعترفوا لها بحق النضال والمواطنة. فما أحرانا، ونحن في ذكرى نوفمبر، أن نعيد لها اعتبارها المستحق، ونروي ''جزائرها الجميلة'' وجزائرنا الجميلة إلى شبابنا لتكون له زادا ثريّا في زمن تخصّص فيه البعض في تثقيف وزرع النسيان، حتى إننا أصبحنا لا نذكر أصدقاءنا الذين كانوا في طليعة من أسهموا في تحرير بلدنا. واللوم، كل اللوم على وزارة الثقافة. فبعد أكثر من أربعين سنة من الصمت، كان حريّا بمن يدّعون تمثيل الثقافة في هذا البلد أن يخصّوا ببعض الذكر الطيّب شاعرة مناضلة وامرأة جميلة اسمها آنا غريكي، تشبه في نضالها من أجل تحرير الجزائر جميلة بوحيرد وجميلة بوباشا وجميلة بوعزة وكلّ جميلات الجزائر.