إنّ من آيات الله الباهرة ودلائل وحدانيته الظاهرة وبراهين قُدرته القاهرة، تصرّم الليل والنهار واختلافهما: {يولِج الليل في النّهار ويولج النّهار في الليل}، ولئن كان الليل للنّاس لباسًا وراحة، فإنّ النّهار للخلق معاش وسباحة، غير أنّ الرّاحة في ليالي رمضان والسباحة في نهاره على خلاف ما تعوّد الإنسان من متع ولذائذ، إذ الأمر ها هنا متعلّق بالروح لا بالجسد، وبالنّفس لا بالبدن، وبعالم السّماء الطهور لا بالطين اللازب والحمأ المسنون. وإنّنا في شهر مضى، وهلال وُلد ثمّ قضى عرفنا اليقين في التّوحيد، وعكفنا لصقل الإرادة والعزم في محاريب الصّلاة، فتحقّق بالأولى السّعادة وأسُها وبالثانية الفلاح والنّجاح المُنتهَى.. وزادنا رمضان فَضِلاً فأقام للصبر في نفوسنا ركائز، وأركب الروح إلى السّماء معارج، وأشعل في القلوب سُرَج الخير، وعمّ الأمّة بالبرّ الدفّاق، حتّى امتلأت زوايا الكون وأثقل الآفاق... ولذلك كان من السُنّة أن نظهر الفرح، ونبدو في أحسن حُلّة، وأمتع بِزة، وأجمل طلعة، وفي الحديث عن الحسن بن عليّ رضي الله عنهما قال: أمرنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في العيدين أن نَلْبِس أجود ما نجد، وأن نتطيّب بأجود ما نجد، وأن نضحي بأثمن ما نجد''. فإظهار الفرح طاعة وبر، وعبادة وأجر. ومن مظاهر هذا المهرجان الديني، خروج النّاس إلى الصّلاة رجالاً ونساء، كبارًا وصغارًا، لحديث أم عطيّة: ''أمرنا أن نخرج العواتق والحُيَّض في العيدين يشهدن الخير ودعوة المسلمين، ويعتزل الحيّض المُصلّى''. فما أعظم أن يجتمع الخلق في صعيد واحد، يجأرون بالدعاء، ويهتفون بالثناء، تمجيدًا لله وتحميدًا، ولكن ما يؤسف له وتذرف له الدموع أن يأتي العيد بوجه باسم ليجد الأمّة في حزن لا يبرح وجرح لا يرم، كيف وجناح فيها مهيض، وراية من راياته خفيضة، وحضارة الرّافدين مسلوبة، ومسرى المصطفى صلّى الله عليه وسلّم في سجن ضيّق خانق، وليس من لحمة في صفوف الأمّة سوى الفرقة، ولا يجمع سداها غيرُ الترف.. فكيف بالله تتم النّعمة وأطفالنا يجلدهم البرد، ويؤلمهم الجوع، ليس هذا تنغيصًا للنّعمة وإنّما هو تذكير بالحقوق، حقوق المسلمين خاصة والبشر عامة، فالمؤمن إلف مألوف ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف، وأفضل الخلق عند الله أنفعهم لعياله، وليس من شيء أحبّ إلى الله من أن ندخل السرور على محزون، ونكشف الكرب عن مكروب، ونزيل الهمّ عن مهموم. إنّ غمرة الفرحة واللّهو المباح، واللّعب المشروع لا يقتضي ذلك كلّه نسيان الآخرين المعدومين، وأوجب الصِّلات صلة الرحم والتهادي والتهاني، والدعاء بقولنا ''تقبّل الله منّا ومنكم'' كما في السُنّة. فما أجمل أن تفرح البراءة بلباسها الزاهي، ويظهر العفو والرّحمة ببراعة المزهو الباهي، إذ قد أبدلنا الله عزّ وجلّ بالعيدين خيرًا من أيّام الجاهلية، والحمد لله على فضله. كلّ عام وأنتم بخير، وعيدكم مبارك سعيد.