بالأمس كان يوم عيد الأضحى المبارك... ونحن نقدم التهاني ونتصل بالأحباء شرقا وغربا، شاء القدر أن يفجعنا خبر أليم ويصيبنا ارتباك لا مثيل له في وقت كنا لا ننتظر أن يرحل عنا أعز صديق بل أخ كريم لينتقل إلى عفو الله ورحمته. نعم، لقد رحل عنا الأخ حسان جمام ونحن في أشد الحاجة إليه في هذه الأوقات الحرجة، التي تتطلب من الوطنيين الأقحاح المزيد من السعي وراء كل ما يعطي النجاح للبلاد ويبعث الانتعاش ويدعو إلى المحبة وروابط الألفة.. فاليوم بعدما تقبلنا نبأ فقدانه بدموع مذرفة وقلب في لظى متعسر، ذلك النبأ الذي أذهلنا ووسم فينا أثر الجرح العميق، هل نستطيع أن نبكي دوما هذا الصديق الحميم، كما نعرف أن البكاء يشفي ولكن لا يجدي عند فراق أعز الناس لدينا؟ لا، أبدا، بل يجب علينا أن نصبر ونقتنع بأننا سنعود يوما إلى الخالق البارئ المصور، إلى ذلك الذي جعل الموت سنته في خلقه... وهكذا وفي هذه المناسبة الأليمة يسعدني أن أطلق العنان لخواطري فأسكت أحلى عبارات اللطف والتقدير لشخصه الكريم وأقول فيه أجمل ما يلهم الإنسان من الوصف والثناء. لأن في مثل هذه المناسبة لا يحق لي أن أبكي مناضلا مثله، بل أن أتذكر دوما أحسن خليل عرفته من خيرة المناضلين وأدعو جميع الأحباء لنبني جسور الأمل لجزائرنا الغالية التي كانت بصدره كما هي الآن في صدر كل مؤمن بتقدمها في فلك التنمية والرقي إن شاء الله.. نعم، لقد عرفته في ساحة العمل.. في ساحة البذل والعطاء، يوم كان فلك السعادة دائرا على محور الإقبال وخدمة البلاد والذّود عن عزتها ورفعتها وقطب السيادة سائرا في أفق المهابة وأشعة شموس الوقار للجزائر في سماء الاعتبار مشرقة وأنوار أقمار الافتخار في عيون الأبصار للآفاق الرحبة للتنمية الشاملة محدقة... نعم، لقد عرفته أيام النقابة وحزب جبهة التحرير الوطني، ونحن في أعز شبابنا بالسبعينات، يوم كان بقسنطينة، عرفته يناضل على الدوام بلا عناء أو ملل.. ثم بعد كل هذه السنوات واللقاءات والعمل المشترك، كان لي الشرف للقائه بدمشق وهو على رأس الإتحاد الدولي لنقابات العرب، منظمة يالها من سمعة ونشاط واحترام عند العارفين!! ومن هناك، من دمشق الفيحاء، بالقطر العربي السوري الشقيق المضياف، قمنا سويا بنشاط لا مثيل له حيث تكسّرت ''التابوهات''، تلك التي كانت راسخة بعالم كان لا يبالي بما يجري حوله من تغيرات في سلك الدبلوماسية، ألا وهو قطاع الخارجية... فعلا، لقد كان لي المناضل حسان جمام بمثابة الأخ الحميم والسند القوي الذي يسعى بشهامة لتحمل مشاق الرحلة في صحارى اللامبالاة وقفار عدم الاهتمام والنسيان.. فكان يعمل معي، كمناضل قح لجبهة التحرير الوطني، لا كالمرتزقة التي تتكاثر اليوم بالحزب العتيد، بل كان يرافقني في كل صغيرة وكبيرة وخاصة لإشعال الوطنية في قلوب أفراد الجالية الجزائرية المتواجدة بالشام الذين أنصفونا ولازالوا إلى يومنا هذا... أنصفونا بالصدق وبالكلمة الطيبة لأن جميع حواسهم الباطنة والظاهرة تنطق لسدة مقام الجزائر النهيلة بالثناء على ما أظهرت همما متصورة من الإقدام على الخروج من التخلف.. وكل هذا كان نتيجة حرص قوي قمنا به بمعية الأخ حسان جمام في جو من الصراحة والألفة والتواصل. نعم، كان الأخ حسان جمام من أولئك الذين لا يتأخرون البتة عن القيام بما يأتي بالخير لبلده الجزائر رغم المسؤوليات الجسيمة التي كانت تأخذ مجمل أوقاته في الندوات والمؤتمرات واللقاءات الدولية والأسفار عبر كل المعمورة. فهو المسؤول العربي الذي يشهد القاصي قبل الداني أنه كان قليل النظير في شيمه وخصاله، بل عدم المثل في أمثاله... وهذه الأوصاف ليست أوصاف مجاملة ولم تأت على صفة المبالغة، لأن الفقيد كان رحمه الله يصدع بالحق في خدمة النقابات العربية وقل أيضا في خدمة الأمة العربية كلها. فعلا، لقد كان ينقل للمناضلين والنقابيين العرب ذاك الطموح الذي كان يراوده وهو في سعيه المتواصل لتقدم ورقي العمال.. كان ينقل إليهم عنفوان الشباب الذين هم مصممون على استئناف المسيرة في قلب الأمة العربية التي تعيش ذلك الإخفاق الجماعي الذي أظهرناه بل أظهره قاداتنا في عدة مناسبات جد مهمة. فكان الأخ حسان جمام صادقا مخلصا، لا يجامل ولا يواجي في تحاليله المتفائلين الذين كانوا ينظرون بتهور للوضع الخطير الذي عاشته ولازالت تعيشه أمتنا العربية. فقد كانت مشاعره حصيلة عذاب متواصل يراجع من خلاله حقيقة موقفه ويجدّد دوما الانطلاق ويستأنف المسيرة ليساهم في تحقيق معجزة العصر مع كل أبنائها البررة ألا وهي وحدة كل هذه الأشلاء التي وضعها الاستعمار لتظهر أمام الملأ أمة لا حول ولا قوة لها.. هذا جزء من أنت يا حسان جمام!! هذا جزء من المناضل الذي كان يقول.. لي حق في هذه الأرض السورية الطيبة لأنني مكثت فيها زمنا طويلا وترعرع فيها أولادي وأخذت فيها العبر الكثيرة وهي تدوي بمواقفها الرائدة الحاسمة والمساندة لكل القضايا العادلة بالعالم وعلى رأسها القضية الفلسطينية. هذا جزء من المناضل الأصيل الذي أحبّ الجزائر بلده وجبهة التحرير الوطني حزبه الذي كان فيه مناضلا ومسؤولا حتى وفاته. هذا جزء من المناضل والمسؤول النقابي الذي تألق اسمه بالإتحاد الدولي لنقابات العرب وبكفاح العمال في الجزائر والشرق الأوسط. هذا جزء من المناضل، بل من الأخ الكريم الودود.. أما الباقي فهو كله كفاح عنيد وثورية بالغة وإيمان صادق بأن العمل ثم العمل لم يدفع بشعب يوما إلى اليأس خصوصا الشعوب التي تدافع عن الحق والمساواة والكرامة. فنم قرير العين أيها الغائب الحاضر لأن اخلاصك للجزائر الحبيبة، من خلال عملك والمهام العظيمة التي قمت بها والمسؤوليات التي تقلّدتها، هو المعهود الحقيقي والمقصود الذي لا يحتاج إلى التحقيق... هذا وخير ما نكرم ونبجّل به روح الراحل حسان جمام هو أن نقف وقفة الإكبار والإجلال أمام كل ما قام به من مهام بجدارة وحنكة مشرّفا بها النقابات العربية والعمل، النضالي ككل.. نم مرتاح البال أيها الأخ الكريم لأنك ستبقى إن شاء الله بجليل ما صنعت خالدا من بين المناضلين والنقابيين.. إنا لله وإنا إليه راجعون أخوك المخلص