هنا لغة واحدة فقط للحوار.. ''البارود''. ففي الاشتباكات تسمع دوي الانفجارات وتبادل القذائف. وفي الانتصار لا تتوقف طلقات الفرحة، ورائحة البارود تملأ الأجواء.. إننا هنا على نقطة التماس بين الثوار الليبيين والكتائب الأمنية للعقيد القذافي على مسافة نحو 120 كيلومتر من المعقل الرئيسي للرئيس الليبي معمر القذافي مدينة ''سرت''. 72 ساعة تحت خط النار، نتنقل بين العربات المكشوفة والسيارات العسكرية بصحبة الثوار المسلحين. بدأنا المسيرة أو كما يطلقون عليها الزحف نحو طرابلس، فجر يوم الجمعة. توجهنا في أربع سيارات تحمل إعلاميين وأطباء إغاثة ومواد طبية، ويسبقنا شباب متطوع بالسلاح، كما أن كل عربة بها مسلح ببندقية. الأسلحة لدى الشباب المسلح الزاحف من بنغازي تتنوع بين البنادق وقذائف ال''آر بي جي'' وبعض مضادات الطائرات. الطريق إلى مدينة راس لانوف كان قريبا من القصص الخيالية. شباب يحمل أسلحة لا يجيد استخدامها ولم يتدرب عليها إلا ليومين أو ثلاثة، وفي المقابل تنتظرهم كتائب أمنية مدربة على حماية النظام واستخدام كل ما يحمله الثوار، فأمس كانوا يمتلكونها قبل استيلاء الثوار عليها. حرارة الجو والسماء الملبدة بالغيوم تصحبها عواصف ترابية مؤقتة بين الحين والآخر. اعتقد سراج الليبي، طبيب ليبي خرج ''للجهاد''، أنها ستعطي لهم قوة على الأرض، فلن تستطيع الطائرات أن تعمل بحرية كبيرة، ولكنها ستعطي الثوار قدرة على المناورة، على حد تعبيره. مسافة أكثر من 200 كيلومتر قطعناها لنصل إلى بلدة أجدابيا، آخر مدن الشرق الليبي. تلك المدينة التي شهدت مواجهات بين الثوار وكتائب القذافي منذ أيام، واستطاع الثوار الدفع بالكتائب الأمنية بعيدا إلى راس لانوف. بنهاية أجدابيا ينتهي الشرق وتنتهي معه مصطلحات اعتدنا على سماعها كصحفيين مسعود شاب من ''بشر''، وهي قرية بدوية هادئة للغاية، تبعد عن راس لانوف بنحو 60 كيلومترا، قال لي إنهم ينتظرون لمن سيكون الحسم لجيش ''القائد'' أو ل''جماعة بنغازي وأجدابيا''، ومن يفوز سيكون معه. لفظان لم أسمعهما من قبل: ''القائد معمر'' و''جماعة بنغازي''. فمن الواضح أننا بالفعل في منطقة لم تهيأ نفسيا لوجود تغير، والبعض مازال يدين بالولاء للقذافي، فالجماهير في قرى البريقة وبشر ومنطقة العقيلة تشعرك للوهلة الأولى بأن الأغلبية العظمى منهم ليسوا مع الثورة، فهناك أعلام خضراء مرفوعة فوق المنازل والكثير من البيوت داخلها صور للعقيد. عندما استقر ركب القافلة في مركز بشر الطبي، قررت أن أكمل الطريق مع مجموعة من الشباب المسلح، سيحملونني إلى مناطق القتال، عربتهم نصف نقل، في الصندوق الخلفي العشرات من قذائف ال''آر بي جي'' والذخيرة وأسلحة، أما داخل السيارة فكان الدم يملأ العربة ويبدو أنهم حملوا فيها الكثير من المصابين. هشام، أحد المتطوعين المسلحين الشباب الذين قررت أن أكمل الطريق معهم وحدي، قال لي إن أغلبية من يحملون السلاح في الطريق إلى راس لانوف من بنغازي وأجدابيا، لأن الكثير من الليبيين، خاصة في المناطق الغربية في القرى بعد أجدابيا، مازالوا خائفين من القذافي ويعتقدون أنه قد يعود مجددا. بعد حوالي 20 كيلومترا من شبر، تحولت المغامرة الصحفية إلى نوع من التهلكة، فالجميع إلى بشر يحمونك وبعدها الله يحميك، فمن أمامنا كتائب أمنية بكل الأسلحة وخلفنا جماهير غير مؤمنة بالثورة ولا نعرف موقفها، وقد تحاصرنا. أربع بوابات مررنا عليها، الكتائب يسألوننا من أنتم ومن سمح لكم بالعبور؟ ونقف إلى جوارهم لدقائق، لتتجمع قافلة من السيارات، تخرج سيارة للثوار من المسؤولين عن البوابة، تسلمنا للبوابة التالية خوفا من وجود خونة أو ذهاب البعض لتسليم الأسلحة لسرت. صوت مرتفع في الجو، تحركات سريعة، الجميع أمام مدافعه وأسلحته والطلقات العشوائية في كل مكان، السماء المغيمة تمنعك من رؤية الطائرة، غير أن قذيفة على بعد كيلومتر تقريبا تخلف وراءها دخانا كثيفا ورملا في كل مكان. إنه ''الموت''، كان أقرب إلينا، ومنذ تلك اللحظة عرفت وعرف من معي أنه قد بدأ العمل، فالقذافي بالفعل يقذف بالطائرات كل من على الأرض، ولا يفرق بين فرق الإغاثة والإعلام والثوار. الكتائب الأمنية تحمي المنطقة الصناعية لمدينة راس لانوف بأسلحة خيالية، منها الغراد الروسي المحرم دوليا والهون والطائرات العمودية والحربية، أما الثوار فكل شاب يحمل سلاح كلاشنيكوف وبعض المضادات الأرضية، يصاحبه آخر يساعده أو كما كنت أعتقد، ولكن عندما سألت سعيد المصري، من الشباب الثوار ولا يحمل سلاحا، قال لي: سأدخل مع صديقي فإذا مات آخذ بندقيته وأحارب. ولأكثر من 12 ساعة جرى تبادل كثيف لإطلاق النار. عربات إسعاف في كل مكان، وكانت أصوات الطائرات في السماء، ولكن لا تستطيع أن تراها. في هذه الأثناء خيرني الثوار الذين يحملونني في سيارتهم بين حمل السلاح لحماية نفسي وحماية من معي أو النزول من السيارة. أكدت لهم أن عملي يتمثل في كشف حقيقة التجاوزات ضدهم، فكان القرار ''أنت الآن صحفي جندي تسمع الأوامر''. وأصبح رئيسي محمد زايد ونائبه هشام، ومعنا شباب آخرون، دخلنا إلى العمق حيث يمكنك أن ترى سيارات محترقة عليها مدفع انتهى أمره واستشهد من عليه. شباب بصدور عارية يحاربون آلة عسكرية ضخمة توقفنا عند منطقة تبعد تقريبا 5 كيلومترات عن بوابة المدينة، تستطيع أن ترى الجبل الذي يحيط براس لانوف، بدأ القذف المتبادل، كر وفر، نجري في الصحراء أو نختبئ تحت كومة من التراب. ابتعدت عن مجموعة الشباب المسلح لأحاول التصوير والقيام بعملي، ولكن شابا دخل إلى المجموعة يحمل ''آر بي جي'' طلب منهم الحصول على قاذف ليستخدمه. أعطوه القاذف ودخل وتعمق حتى غاب عن رؤيتنا، وعرفنا خبر استشهاده بعدها بساعات. فرد على الخبر محمد قائد المجموعة: ''نالها ورب الكعبة''. ظل الأمر كرا وفرا إلى غياب الشمس. قررت الرجوع، أوقفت عربة عادت بي إلى بشر مرة أخرى. وفي الطريق جاء الخبر. الثوار على مشارف المدينة والكتائب الموالية للقذافي انسحبت. عدنا مرة أخرى سريعا ودخلنا، فكان إطلاق مكثف للنار، ولكن هذه المرة طلقات الفرحة والنصر للثوار. الجميع يرفع علامات النصر. وقعت المدينة النفطية الأولى في ليبيا وفقد القذافي إحدى أوراق التفاوض مع الغرب. بتنا ليتنا في المركز الطبي براس لانوف، وعرفنا أنه كانت هناك خيانة تمت داخل الكتائب الأمنية للقذافي، ما سهل وقوع المدينة في يد الثوار. الدكتور عبد الله من المركز الطبي في راس لانوف أكد لنا أنه وصلت لهم أربع حالات حروق من الجنود التابعين للعقيد القذافي، مضيفا: ''إنهم رفضوا إطلاق النار فرموا عليهم قنبلة''، وأشار إلى أنهم ينحدرون من قبيلة الفرجانة. في الصباح استيقظت على صوت طائرة عمودية، شوارع المدينة كانت خالية تماما، جاءنا أحد الأطباء وقال: عليكم بإخلاء المستشفى قائلا: ''نحن لا نريد أي مشاكل''. لأول مرة أسمع تلك الكلمات. عبد الله، شاب من العمال في مصنع بالمدينة، بعد توقف العمل بسبب الأحداث، توجه إلى المركز الطبي للمساعدة، دعاني للخروج بأي طريقة، فالأهالي في المدينة، حسبه، الكثير منهم من سرت والأكثر منهم من قبيلة القذاذفة ويدينون بالولاء للقذافي ويعتقدون أن الإعلام والصحافة يحرضان أهل ليبيا. وهو ما قمت به وتركت المستشفى ليستضيفني صالح، أحد الشباب من عاملي المستشفى. وأكد أننا في أمان داخل حوشة ''بيته''، وسيدافع عنا لو حصل أي هجوم، ولكننا قررنا الخروج إلى الطريق الرئيسي، فقام بحمل بندقية وخرج ليحمينا. وفي الطريق الرئيسي وجدنا العديد من الثوار. وهناك بدا واضحا للغاية ما سمعته من قبل عن موقف أهالي مدينة راس لانوف، من خلال السيارات التي تخرج من المدينة وتهرب إلى الغرب نحو سرت وبن جواد. وقفنا معهم لدقائق وبدأ الصياح: طائرة هناك طائرة هناك.. لتنطلق أربع عربات جيب إلى الصحراء، نحو جنوبالمدينة. صعدنا معهم وتوجهنا إلى الجبل في حماية كثيفة وتغطية للمضادات الأرضية ولم نجد جنودا أو مرتزقة. دخولي للمناطق الصحراوية جعلني أرى ما لم أتوقعه. الثوار استطاعوا الحصول على عشرات الأسلحة الحديثة، منها الغراد وسام 7 المضاد للطائرات وأسلحة جديدة، استطاعوا الحصول عليها من الكتيبة الأمنية التابعة لحرس المنشآت النفطية على مشارف راس لانوف. صعدنا على متن إحدى العربات وأعلن أحد الشباب: ''لن نقف هنا وننتظر، هيا إلى بن جواد''. وهنا انطلقت العربات سريعا إلى بن جواد، نعم هجوم عشوائي كما يبدو، ولكنه يحمل بين طياته حبا للنصر. وبعد أن وصلنا إلى مسافة تبعد عن سرت بنحو 160 كيلومتر، اضطر الثوار إلى العودة بسبب قوة القصف الذي استهدفهم من قبل الكتائب الموالية للقذافي، لنتوجه مجددا نحو راس لانوف ثم إلى بنغازي.