دفعت التغيرات التي اجتاحت عددا من بلدان الشرق الأوسط إلى استفاقة الأردن على خلل بالسياحة التي تمثل أكثر من 13 بالمائة من الدخل الوطني، بعد أن تراجعت هذه السنة بنسبة 60 بالمائة، حسب ما أفادت به هيئة السياحة الأردنية، ما دفع بالبلد إلى إعادة النظر في هيكلة القطاع الذي كان يعتمد على البرامج المشتركة، خاصة مع سوريا ومصر، ومحاولة جلب سيّاح جدد يجهلون ما تزخر به المملكة، وهو ما تسعى إليه اليوم مع السائح الجزائري. الزائر إلى الأردن لا يمكن أن ينكر مزايا كثيرة لهذا البلد الذي تحول إلى واحد من أهم البلدان العربية التي تتميز بصناعة السياحة، وتستقطب سنويا ملايين الزوّار نحو مواقعها الأثرية. فالخدمات محور أساسي في القطاع، انطلاقا من أماكن الإقامة التي لعبت فيها الفنادق ذات الماركات العالمية دورا فعالا في المنطقة، كالشيراتون والماريوت وموفنبيك، التي تتفرع في معظم المحافظات الأردنية، خاصة منها التي تستقطب السيّاح، وصولا إلى التركيز على الجانب البشري، حيث يتخرّج من كلية السياحة سنويا آلاف المكوّنين في مختلف التخصصات، وهو ما جعلها وجهة أولى للسائح الأوروبي، خاصة من ألمانيا وإيطاليا واسكندنافيا. البتراء، العقبة، واد رم... مثلث الأردن الذهبي رحلتنا انطلقت من مدينة عمان التي احتضنتنا شوارعها الهادئة الصاخبة، بعد نزولنا بمطار الملكة علياء مباشرة، فهي مدينة رغم أنها أكثر المدن الأردنية كثافة للسكان، حيث يقطن بها أكثر من 2 مليون نسمة من مجموع 6 ملايين أردني يتوزعون على المملكة، إلا أنها لا تعج بحركة المرور مثلما تشهده المدن الكبرى عادة. في المقابل، هي مدينة لا تنام، فالسهرات الليلية جزء لا يتجزأ من حياة العمانيين... المقاهي والمحلات تتزين ليلا أكثر منها نهارا، لتستقطب العائلات من كل حدب وصوب، وتصنع فيها ''الشيشة'' والشاي الحدث على طاولة الساهرين، في الوقت الذي تبقى فيه سيارات الأجرة تتجوّل بالطرق المحاذية لهذه المحلات تلبية لرغبة الزبائن حتى الصباح. غادرنا عمان بعد يوم واحد من الإقامة بها نحو البحر الميت، أو ما كان يعرف قديما ب''بحيرة لوط''، الذي يعدّ أول محطة لاكتشاف تاريخ الأردن العريق، فهو يبعد عن العاصمة عمان ب60 كلم فقط، ويعتبر أخفض بقعة على سطح الأرض بحوالي 400 متر، يقصده الفضوليون من السيّاح رغبة في الاستمتاع والعلاج معا، فهو بحر له مزايا ينفرد بها عن باقي بحار العالم. فبالإضافة إلى درجة الملوحة العالية التي أصبحت مصدر علاج لعدد من الأمراض الجلدية لاحتوائه على أكثر من 30 معدنا، توجد به كميات هائلة من الطين التي يستخدمها المصطاف كقناع يعمل على تلطيف البشرة، وتفعيل الدورة الدموية، وتخفيف الآلام الناتجة عن التهابات المفاصل والروماتيزم. وهنا، تذكر الروايات أن مواد البحر الميت كانت تستخدم في القرون الأولى قبل الميلاد، منها مثلا مادتي البيتومين والقطران التي تذكر الروايات أنها كانت تصدّر نحو مصر لاستخدامها في التحنيط. ورغم أهميته، إلا أنه يواجه اليوم مشكلة الجفاف، حيث يشهد سنويا تقلصا في مساحته الإجمالية، وهو ما دفع المملكة إلى بعث المشروع الذي سينطلق مستقبلا لضخ مياه البحر الأحمر نحوه للإبقاء على مكانته المتميزة في المنطقة، خاصة أنه يوجد بمحاذاته عدد من المحميات، منها محمية الموجب التي تعدّ أخفض محمية على وجه الأرض، وهي ملاذ للطيور المهاجرة والحيوانات المهدّدة بالانقراض، وهو نفس ما تزخر به محمية ضانا المجاورة الغنية بأنواع من النباتات النادرة. تنقلنا بعدها إلى مدينة البتراء، أو زهرة الأردن كما يطلق عليها، في رحلة استغرقت حوالي ثلاث ساعات. هي معلم تاريخي عريق، صنفت كواحدة من عجائب الدنيا السبع الجديدة، وهي أحد أعمدة المثلث الذهبي الأردني، بالإضافة إلى العقبة وواد رم، تستقبل سنويا أزيد من نصف مليون سائح، هي عبارة عن مدينة كاملة منحوتة في الصخر الوردي اللون، ومن هنا جاء اسم بترا، وتعني باللغة اليونانية الصخر. والبتراء تعرف أيضا باسم المدينة الوردية، نسبة إلى لون الصخور التي شكلت بناءها. وهي مدينة أشبة ما تكون بالقلعة، بناها الأنباط في العام 400 قبل الميلاد، وجعلوا منها عاصمة لهم. وأهم ما يميز البتراء مبنى الخزنة الذي يبلغ ارتفاعه حوالي 39 مترا وعرضه 26 مترا، وتتخللها أشكال ومجسمات تجلب لها عددا كبيرا من الفضوليين، كان يوضع فيها رماد الميت. وقد تفككت بعض جدرانها، حيث كان البدو يطلقون عليها النار ظنا منهم أنها تحوي خزنة فرعون. اقتادنا سحر المدينة نحو العقبة التي لا تبعد عنها كثيرا، هذه الأخيرة التي تشهد إقبالا غير مشهود عند نهاية الأسبوع من قبل الأردنيين، فهي مركز تجاري مهم، يكفي أنه يتواجد بها الميناء الوحيد للأردن الذي ترسو به جميع البواخر المحملة بواردات البلد. كما أن سوق العقبة يعدّ من أهم أسواق المملكة، لأسعاره المغرية بسبب إعفائه من الرسوم الجمركية، ويوجد بها البحر الأحمر الذي يملك ميزة ينفرد بها عن بحار العالم، وهو محافظته على درجة الحرارة التي لا تتجاوز 24 درجة طيلة السنة. ويجاور العقبة واد رم الذي يبعد عنها ب70 كلم، وهو عبارة عن صحراء صغيرة. يمتاز بجباله الشاهقة، ففيه أعلى القمم الجبلية في جنوب بلاد الشام، وهما جبل أم الدامي وجبل رام. كما يتميز الوادي أيضا بعدد المخيّمات السياحية المنصبة عبره والتي تحل محل الفنادق كونه محمية طبيعية. السياحة الدينية والعلاجية ورقة رابحة لم نفوّت فرصة تواجدنا بالمملكة دون التعريج على المواقع التي تضم مقامات لأنبياء وصحابة ومعالم لمساجد وكنائس ضاربة في التاريخ، كانت أهمها مقام سيدنا موسى بمدينة مأدبا التي تروي مرور النبي بالمنطقة والتي دفن بضواحيها، حيث تؤكد الروايات أن موسى، عليه السلام، هو أحد أبناء لاوي، أخ سيدنا يوسف عليه السلام، سرى من سهول موآب متسلقا جبال المنطقة، حيث شاهد أرض الميعاد لأول مرة من جبل ''نيبو'' موقع المقام، وكان ذلك حوالي 1300 سنة قبل الميلاد. وغير بعيد عن هذا الأخير، توجد كنيسة القديس جورجيوس التي تتكون من الخارطة البيزنطية المدهشة المرسومة بالفسيفساء، والتي تعود إلى القرن السادس للميلاد التي تظهر فيها القدس وعدد من مواقع مقدسة أخرى، حيث تتكون من مليوني قطعة من الفسيفساء الملونة. ويضاف لهاذين المعلمين الدينيين مجموع الأضرحة والمقامات المنتشرة عبر تراب المملكة، والتي تمثل محل شغف عند السيّاح لرؤيتها، ومنها السائح الجزائري الذي تسعى هيئة السياحة لإغرائه بهذا النوع من السياحة التي تستهويه. فهناك جبل هارون بمدينة البتراء الذي يعتقد أنه يضم قبر النبي هارون، عليه السلام، والينابيع السبعة التي ضرب موسى بعصاه الصخر فتفجر، يضاف لها مقام النبي سليمان، عليه السلام، بمدينة الكرك، وهي نفس المدينة التي تضم مقام النبي نوح، عليه السلام، والنبيين إلياس ويحيى. وفي وسط الأردن، وبالضبط قرب مدينة السلط، يقع مقام النبي أيوب. وغير بعيد عن المنطقة، وبالضبط في وادي شعيب، يوجد مقام النبي شعيب، وفي الجنوب الشرقي من عمان، يقع ضريح ''أهل الكهف''، وهو أهم المواقع الجاذبة للزائرين، بحكم أنها مذكورة في القرآن الكريم وفي التاريخ المسيحي. يضاف لهذه المقامات أضرحة للصحابة، منها ضريح جعفر بن أبي طالب، ومقام زيد بن حارثة، وعبد الله بن رواحة، رضي الله عنهم، في مدينة مؤتة. وبوادي الأردن، يوجد مقامات الصحابة ضرار بن الأزور، وأبو عبيدة عامر بن الجراح، ومعاذ بن جبل، وعامر بن أبي وقاص، وغيرهم من الصحابة التي تتوزع أضرحتهم عبر التراب الأردني. في المقابل، تعدّ السياحة العلاجية بالأردن محطة مهمة في مجال السياحة، وقد قادتنا جولة نحو حمامات معين المعدنية الحارة التي تتجاوز حرارة المياه بها 50 درجة مئوية، وهي منطقة هادئة يحلو فيها الاسترخاء وتتميز بخاصية علاجية ممتازة، حيث أصبحت واحدا من مواقع السياحة العلاجية إلى جانب البحر الميت، وأقيم بمحاذاة الشلالات المعدنية فندق حمامات معين فئة 5 نجوم، الذي يعدّ من أهم الفنادق على أرض الأردن لتميزه على باقي الفنادق الأخرى من حيث التصاميم والخدمات، حيث تتماشى طريقة بنائه مع موقع الحمامات الذي يتواجد في منطقة منخفضة ومحاطة بالسلاسل الجبلية. وتقدم الحمامات كل أنواع العلاج بالمياه والزيوت والطين المستخرجة من البحر الميت. موسم استثنائي ومساعٍ لإغراء السائح الجزائري كل ما ذكر سابقا لم يشفع للمملكة الهاشمية للمحافظة على عدد السيّاح الذين تعوّدوا التردد عليها سنويا، فقد أجمع القائمون على السياحة بالمملكة الأردنية على تراجع السياحة هذه السنة مقارنة مع السنوات الماضية بنسبة 60 بالمائة، معرّجين على آخر لقاء جمعهم بممثلي وزارة السياحة، وعلى رأسهم وزيرة القطاع التي دعت فيه إلى تكثيف الجهود لإنقاذ الموسم. وهنا، أشار المعنيون إلى الأوضاع التي مست المنطقة، خاصة في سوريا ومصر، والتي أثرت سلبا على توافد السيّاح، مع العلم أن الأردن كانت تعتمد بشكل كبير على السياحة الإقليمية عن طريق البرامج المشتركة بين الدول المذكورة، بتحويل الزائرين من دولة إلى أخرى. رئيس جمعية فنادق العقبة، صلاح الدين البيطار، ذكر أن الدولة أخطأت عندما اعتمدت على هذا النوع من الشراكة، والدليل هو ما جنته عند أول توتر بالمنطقة، وكان الأجدر الاعتماد على برامج خاصة بها، فيما تكون البرامج المشتركة خطوة استثنائية لدعم السياحة ككل. في المقابل، أشار أسامة سليمان، عضو بالجمعية، إلى ما جنته منطقة العقبة من تدفق للسيّاح، بعد تجسيد مشروع السماء المفتوحة التي سمحت بهبوط معظم الطائرات دون قيود الإجراءات المتبعة في باقي المطارات، حيث يكفي الإعلان عن الهبوط فقط. إلا أنه تحدث عن عراقيل هذا الموسم الذي يحتاج إلى تحدّ كبير وبدائل جديدة، من شأنها إنقاذ الموسم السياحي. وحسب المعنيين دائما، فإن السائح الجزائري سيكون ضمن الحلول التي سيتم اللجوء إليها بتقديم خدمات مغرية، منها طرح خيار فتح خط العقبة الجزائر، خاصة أن هذه الأخيرة محطة تجارية قد تستهوي السائح الجزائري، بما في ذلك تجارة الذهب الذي تعرف أسعاره انخفاضا ملحوظا مقارنة بالارتفاع الذي يشهده حاليا بالجزائر. إلا أن الخطوة تعدّ مجرد مشروع، ويحتاج أكثر من خطوة لتجسيده، بما في ذلك مراجعة سعر التذكرة الذي يصل إلى 6 ملايين سنتيم، وكذا مراجعة أسعار الإقامة بالفنادق التي لا تقل عن 200 دينار أردني، أي ما يفوق 20 ألف دينار جزائري، وهو ما تحدث عنه سفير الجزائر بالأردن، سيدي محمد قوار، الذي أكد لممثلي هيئة السياحة الأردنية في اللقاء المشترك مع الإعلاميين الجزائريين، أنه بإمكانهم تحويل وجهة مليون سائح جزائري تعوّد قضاء عطلته بتونس نحو الأردن بمراجعة الأسعار، على أن يطرح هذا الانشغال في أول لقاء رسمي سيجمعه بوزيرة السياحة الأردنية.