أتذكر أولى خطواتي في المجال الفني التي كانت في بداية التسعينيات، ومازالت ذكريات مقهى ''لالماص'' بحي ميسونيي، في الجزائر العاصمة، لصيقة بذهني، لم تبرح مخيلتي، ذلك المكان الذي تحتفظ جدرانه بجلساتي رفقة ثلة من فناني الشعبي، منهم من لقي نحبه، ومنهم من لازال حيا، وكان الراحل كمال مسعودي سيد تلك الجلسات، التي كانت تجمعنا أحيانا بنصر الدين فاليز، ولا يمكن أن يمحوها الزمن مهما طال أو قصر. كان صاحب ''يا الشمعة'' و''خسارة عليك يا دنيا''، هو من يدفع ثمن القهوة التي كنا نرتشفها أو المشروبات التي كنا نشربها هناك، في أغلب الأحيان، وهو المعروف بسخائه الكبير. وفي إحدى المرات، التقى بفاليز بالعاصمة الفرنسية باريس، في شهر رمضان، حيث أحيا حفلا فنيا هناك. وبعد انتهاء الأخير، توجها لاقتناء ما يمكنهما ''التسحّر'' به، فألح فاليز على أن يكون من يدفع ثمن البوراك، فتبسم كمال وقال له: ''آه يا فاليز.. في قهوة لالماص ما خلصتش.. حبيت تخلص في باريس''. فظلت الحادثة تتداول على ألسنة الفنانين كلما التقوا في مقهى أو مطعم، يتذكرون بها كرم كمال مسعودي، وحسن أخلاقه. في حقيقة الأمر، وجدت أن ذكرياتي كثيرة مع ثلة من الفنانين الذين أحببتهم، وظلت دهاليز ذاكرتي تحتفظ لهم بعديد الأشياء الجميلة التي جمعتنا. لكن ما حصل لي ذات مرة مع صاحب النبرة الحزينة، كمال مسعودي، طفا على السطح، وأبى إلا أن يمتثل أمامي. فذات مرة وعندما حان موعد الغداء، بعد أن التقينا للتسجيل في أحد استوديوهات العاصمة، عزمنا على أكل ''البيتزا'' التي كان يحبها الراحل بأحد الأحياء الشعبية العتيقة، وهو المعروف بحبه الكبير ل''بيتزا النقانق'' وأصر علي بتناولها، إلا أنني تفاجأت به يطعم قطا منها، إذ اكتفى بأكل ''البيتزا''، وناوله جميع النقانق، فقلت له: ''لكنك اخترت هذا النوع من أجل النقانق؟''، فما كان إلا أن رد علي ''ولكنها قطة مسكينة، فهل آكل النقانق وأتركها تجوع؟''. لا زلت أتذكر صورته وهو يبحث عن القطط تحت السيارات الموقوفة إلى جانب الرصيف، لا لشيء إلا لإطعامها، فقد كان يحب القطط كثيرا، ولا يهنأ له بال ولا مأكل إلا وهو يراها تأكل.. كان طيبا وكريما، ورأفته بالحيوانات كانت لا توصف.. رحل كمال الذي وقعت أولى خطواتي في أغنية الشعبي الحديثة معه، وعلمني كيف أحب كل ما خلق الله، وبعث فيّ واحدة من خصاله التي كان متمسكا بها.. الرأفة بالحيوانات الضعيفة.. الله يرحمك يا كمال، لم يمر يوم علي إلا ودعوتُ لك بالرحمة والمغفرة، يا من كانت الرحمة من شيمك.