صاحب الناي السحري في رحلة مع النغم الأصيل تعدت نصف القرن في صمت ووقار كان دائما يداعب نايه بطريقة سحرية، زادته عظمة في كل مرة وجعلته المؤهل الأول لقيادة الجوق الموسيقي لقسنطينة على مدار 30 سنة، دون أن ينافسه منافس. قدور درسوني نجم لامع في سماء المالوف والموسيقى الأندلسية لا يزال إلى اليوم، ورغم كبر سنه، موجها ومرجعا هاما لموسيقيي المدينة التي يحاكي كل جسر من جسورها نغم من أنغام نايه على مدى حياته التي يرويها الأستاذ عبد المجيد مرداسي في كتابه ''معجم الموسيقى الحضرية لقسنطينة'' الذي صدرت ترجمته إلى العربية منذ أيام، حيث دوّن فيه أن قدور درسوني الذي ولد سنة 7291 بدأ مغنيا في جوق ''جمعية محبي الفن'' ثم ''الشباب الفني'' إلى غاية توقيف نشاطاتها سنة 9391. كان تكوينه الأساسي على آلة الناي، وخالط الأوساط الطرقية، ثم الفنادق طيلة سنوات الحرب، ليظهر بعدها بالدربوكة وبالناي في جوقتين يهوديتين، قبل أن يلتحق بجوقة خوجة بن جلول سنة 7431 حيث لازمه ولفت هناك انتباه الموسيقيين المحترفين. وبسبب ولعه بالموسيقى فقد تخلى عن حرفة التجارة التي كان يمارسها وتفرغ نهائيا للموسيقى، فكان يتردد على أوساط الموسيقيين المحترفين أين اكتشف الزجول لدى الفنان معمر بن راشي، ثم عمل مع محمد العربي ين العمري، حيث أتم تكوينه. ظهر في عدة مناسبات ضمن أجواق مختلفة كعازف عود، على غرار فرقة محمد العربي بن العمري وفرقة ريمون ليريس. في سنة 6591 اضطر قدور درسوني لإيقاف نشاطاته الموسيقية لمروره بفترة مهنية وشخصية عصيبة، خاصة بعد أن تم اعتقاله أين أقام لمدة 31 شهرا بمركز اعتقال''الحامة بليزانس''. بعد الإستقلال التحق درسوني بجوق فرفاني ثم انفصل عنه ليؤسس تشكيلته الخاصة، وبدأ يشارك في كل المشاريع الموسيقية المقامة في قسنطينة. وقد عرف عن قدور درسوني أنه من محبي الوحدة والحفاظ على تاريخ والتراث، حيث نظم وأدار ''جمعية المستقبل الفني'' . في الستينات ظهر هذا الفنان كقائد جوق مع مجموعة بن طوبال، إلى جانب مشاركته في جهود ''المعهد الوطني للموسيقى''، لحفظ وحماية التراث الموسيقي الوطني، خاصة بمقارنته للنصوص الشعرية والموسيقية التي أصدرتها بعد ذلك الشركة الوطنية للنشر في كتاب. ولأنه عمل كمدرس في المعهد البلدي لقسنطينة فقد أثر في أجيال الموسيقيين الجدد، حيث فرض أسلوب ''درسوني'' في عزف الناي. وبعمله في المعهد تمكن من اكتشاف أصوات جديرة بأن تضاف في سجل المالوف كمحمد الشريف زعرور الذي جعله المغني المفوض لفرقته. في بداية الثمانينات عمل قدور درسوني في باريس مع سيمون علوش تمار وسجل معها أشرطة كاسيت. ومنذ التسعينات أصبح فاعلا أساسيا في تمثيل قسنطينة في مناقشة وتنفيذ السياسة الرسمية للتراث الموسيقي، مما خوله لأن يكون عضو إدارة الجمعية الوطنية لحماية الموسيقى الكلاسيكية الجزائرية، حيث عين سنة 9991 مديرا تقنيا مكلفا بنشر ''نوبات المالوف'' وتسجيلها لدى الديوان الوطني لحقوق التأليف بقيادته للجوق المتكون من عبد المومن بن طوبال، محمد الطاهر فرفاني وحمدي بناني سنة 9991. وقد نادى قدور درسوني بضرورة حماية المالوف من الإندثار، حيث قال ''كنا نلاحظ ضياع النصوص الشعرية والألحان، وقررنا حماية ما كان معروفا في ستلمسان، الجزائروقسنطينة''. وكانت المرحلة الأولى تتمثل في حماية المتون الشعرية وفي مرحلة ثانية كان علينا تسجيل الموسيقى، وكان ينبغي أن تتصل المرحلة الثالثة بكتابة الموسيقى. للفنان أثار بليغة في عالم المالوف القسنطيني لعل أهمها أجيال الموسيقيين الذين تتلمذوا على يده وخلدوا بعد ذلك المالوف بطريقة صحيحة أمثال، كمال بودة، حسان برمكي وغيرهما كثيرون. أنا فنان وكل أنواع الموسيقى تعجبني الشيخ قدور درسوني ولدى استضافتنا له في مكتب الخبربقسنطينة، عبر عن اعتزازه الكبير بأجيال الموسيقيين الذين تتلمذوا على يده منذ 3691 سواء في جمعيته، في معهد الموسيقى أو في فترة تدريسه بالثانوية، حيث يقول ''لقد علمتهم كل ما تعلمت بطريقة سليمة ومضبوطة''. الأستاذ ورغم كبر سنه وتعبه إلا أنه لا يزال يصر على المحافظة على المالوف مؤكدا على ضرورة كتابة نصوصه، تسجيل موسيقاه وكتابتها بطريقة الصولفاج لتجنيب هذا التراث من الضياع كما ضاع أغلبه من زمن، مشددا على تلاميذه في حديثه حيث قال ''أوصي تلاميذي من بعدي بالمحافظة على المالوف وكما بلغتهم إياه يبلغوه للأجيال القادمة''. شيخ الشيوخ كما يطلق عليه في الأوساط الفنية أكد أنه من محبي كل أنواع الموسيقى ''أنا فنان وكل أنواع الموسيقى تعجبني''. كنت أول تلميذ لقدور درسوني كانت السعادة بادية على جراح الاسنان الدكتور حمادي حمداني هو يتحدث عن أستاذه، مؤكدا أنه كان معجبا به قبل أن يتتلمذ على يده، خاصة عندما كان يلتقيه في مختلف المحافل. الدكتور حمادي ذكر أنه كان في الستينات منخرطا في فرقة أسسها محمد براشي نجل الفنان معمر براشي، وأن الدرسوني قد حضر يوما لحصة تدريبية من حصصهم فتبناه ليكون أول تلميذ له قبل أن ينشأ معهد الموسيقى، وقد دربني على أغنية ''من يبات يا راعي للحباب، يا حمام سلملي على الجزاير''. المتحدث ذكر أنه كان مجرد هاو، إلا أنه كان يعتز كونه مغنيا وعازفا في جمعية المستقبل الفني القسنطيني، خاصة أنه غنى لما تحصلوا على الجائزة الأولى في 8691 . ويقول الدكتور ''كان معلمنا يأتي قبل التلاميذ جميعا، يحب الإنضباط، إلا أنني لم أستطع الإلتزام بهذا الفن لانشغالي بالدراسة ثم بالعمل رغم أنني كونت فيما بعد جمعية البسطانجية رفقة بن خويط وعبد المومن بن طبال''. وما زاده شرفا يقول حمادي هو مساعدته لشيخه في جمع وتصحيح كتاب ''موشحات وأزجال''. تعلمت على يد كثير من المشايخ لكن درسوني هو المدرسة يذكر الفنان حسان برمكي أن والدة الدرسوني هي قريبة جدته لأبيه وأن اتصاله الأول به كان سنة 5791 سنة التحاقه بالمعهد البلدي للموسيقى، حيث أكد أنه أراد تعلم الصولفاج، إلا أن وجود جوق المعهد آنذالك جعله يطمح لأن يكون فيه فقد عمل جاهدا كما قال ليلتحق بهذا الجوق ويصبح عازفا ومغنيا في ذات الوقت، حيث وبعد امتحانات واختبارات كثيرة أمام أستاذه كان آخرها آداؤه لأغنية ''شمس العشية'' في نوبة الرمل، استطاع أن يفتك له مكانا بين جوق المعهد ثم جوق الأستاذ الدرسوني نفسه مع مشايخ آخرين على غرار زواوي فرفاني، الشيخ بن راشي، بن جبار والنوي... المتحدث قال أن الشيخ درسوني هو رمز التربية والصرامة، حيث يذكر الأستاذ درسوني قد صفعه مرة على وجهه لعدم التزامه بالوقت. ويضيف أن ما كان يهمه أيضا هو المحافظة على المواعيد والإنضباط. كما أنه لا يحب التقليد بل يحبذ أن يكون لكل فرد من تلاميذ شخصيته الخاصة وميزته في العزف والإلقاء. ويختتم حسان برمكي بالقول ''مهما قلت ومهما فعلت فلن أوفيه حقه، لأنني استطعت بفضله أن أصل إلى ما أنا عليه فهو الأستاذ الذي علم قسنطينة كلها، فقد تعلمت على يد كثير من المشايخ لكن قدور درسوني هو المدرسة''. الشيخ درسوني أشرف على تكوين أجيال من الفنانين يذكر الفنان كمال بودة أن الشيخ قدور درسوني علم 09 بالمائة من فناني قسنطينة، وأشرف على تكوين أجيال، ومنهم جيل الشباب من أمثال سفيان، عباس ريغي وحسان برمكي الذين يمثلون مستقبل الفن في قسنطينة. ويضيف بأن معرفته بالشيخ تعود إلى 0791 حيث غادر فضاءات كرة القدم، ليلتحق بالمجموعة الصوتية للمعهد البلدي للموسيقى بقيادة درسوني، أين تعلم مبادىء الموسيقى. ويقول ''كنت من بين أحسن تلاميذ الشيخ الذي له طريقته الخاصة في التعليم، يتميز بدقة الملاحظة ويستطيع إدراك مواهب التلميذ منذ اللحظات الأولى. وهو بسيط في معاملاته شعبي في علاقاته، لا يحتقر ولا يتكبر، ويفتح مجال التعلم أمام الجميع. صاحب المبادئ والقوانين الصارمة بكل فخر واعتزاز، حدثنا السيد محمد عزيزي صاحب ملتقى الفنانين ''مقهى الحوزي'' عن أستاذه الذي صار صديقه فيما بعد، وعن مبادئه المثالية. السيد عزيزي الذي كان بجمعية المستقبل الفني القسنطيني وشارك في أول مهرجان وطني للموسيقى الأندلسية سنة 8691, يتذكر جيدا الجائزة الأولى التي تلقاها أستاذه من الرئيس الراحل هواري بومدين في ثاني طبعة للمهرجان الوطني للموسيقى الأندلسية والذي نظم آنذاك في عهد وزير الثقافة محمد الصديق بن يحي. وعن أستاذه قال محدثنا أنه قوي الذاكرة وكان نزيها في تعليمه لهم لأنه علمهم ما يجب وعلى أكمل وجه. ورغم أن تعليم موسيقى المالوف كان بالسماع، إلا أنه لم يكن يرضى بالتحريف، مؤكدا أنه بعد الشيخ درسوني لا يمكن أن نقول أن لقسنطينة جوقا لأن الجوق القسنطيني يحيا على حسه، بصرامته وجرأته التي جعلته يقوم بثورة بواسطة آلة الناي ويخلق لها 3 خانات موسيقية جديدة. حدث مع درسوني في إحدى الحفلات بفرنسا دعي الشيخ قدور درسوني ليكون في الفرقة كونه عازف ناي محترف، وقام أحد المدعوين بمنح مبلغ مالي لقائد تلك الفرقة طالبا أغنية معينة، إلا أنه لم يؤدها كما يجب فقام درسوني من مكانه حمل نقود السيد وأعادها إليه وقال له ''إنهم يكذبون عليك هذه ليست الأغنية الصحيحة'' في عمر ال 84 لا يزال الفنان معلم الأجيال يقطن شقة ضيقة في الطابق الخامس بأحد أحياء وسط المدينة بعيدا عن أعين السلطات التي لم تعط الفنان قدره، رغم معاناته مع المرض وصعود ونزول الدرج كل مرة.