نشهد في عصرنا محاولات لتجديد الفقه الإسلامي في شكله ومضمونه، في تآليف تتّجه إلى العناية بالأدلة، ولا تعرض الفِقه مجرّداً كما كانت أغلب المصنّفات الفقهية، ومن ذلك أنّه صدرت الطبعة الثانية من كتاب ''المبسط في الفقه المالكي بالأدلة'' سنة 1431ه/2010م، عن دار الوعي للنشر والتوزيع بالجزائر. هذا الكتاب، كما يدل عليه عنوانه، سلك فيه صاحبه، وهو الأستاذ الدكتور التواتي بن التواتي منهجاً مبسّطاً سهلاً، واجتهد أن يأتي بالأدلة على الفروع الفقهية المالكية الّتي كانت المؤلفات فيها في أغلب الأحوال مجرّدة عن الأدلة، وعن أصول منهج مالك في الاجتهاد والاستنباط، وهو أمر يستحق التّنويه في عصرنا الّذي يتطلّب النّاس فيه الأدلة على ما يعملون به في حياتهم، من قوانين الشّريعة، أصولها وفروعها. ويقع الكتاب في خمسة أجزاء، استوعب فيه أبواب الفقه من عبادات ومعاملات، وهو قد قضى في تدريس الفقه، وتأليف هذا الكتاب خمساً وعشرين سنة من حياته. مستفيداً من إرشاد شيخه أبي بكر بن بلقاسم الحاج عيسى الأغواطي -رحمه الله- وقدّم للكتاب بمقدمة في العقيدة لم يسلك فيها منهج المتكلمين الجدلي.كما ترجم للإمام مالك في لمحة موجزة وتحدّث عن كتابه الموطأ أوّل تأليف في الإسلام وصلنا في الحديث والفقه.والأمر الّذي لفت انتباهي في هذا الجهد، عناية المؤلف بالأمور المستجدة في عصرنا، مثل كتابته عن الزّكاة، وما يتّصل بها من الأموال الورقية الّتي حلّت محل التعامل بالدينار الذهبي والدرهم الفضي، والاجتهاد في تحديد النِّصاب والوزن الخاص بالدينار والدرهم وما صار إليه اجتهاد فقهاء الشمال الإفريقي، إلى جانب التّعامل المالي وموقف الشّريعة من المعاملات الربوية والتِّجارة بالعملة وتبادل الأوراق المالية في البورصة والعمل في البنوك الربوية وتحديد معنى الرِّبا،.. وهذا البحث وأمثاله من الأمور المستجدة في الحياة، يجب أن يدخل في كتب الفقه، وأن يكون مرجعاً للطلاب وعامة النّاس، ليكونوا على بصيرة من المعاملات الشّرعية في هذا المجال. ثمّ إنّنا لا نجد مبحث الوَقْف أو الحُبُس في هذا الكتاب مع أهميته، وما تزال لدينا وزارة للأوقاف، وما يزال النّاس يوقفون أوقافاً خاصة وعامة، والنّاس في حاجة إلى معرفة أحكام الوقف ومقاصده لأثره البالغ في حياة المسلمين الاقتصادية والتربوية، وفي ترقية العلوم الّتي توقف عليها أحباس كما توقف على الفقراء ومختلف الأغراض الأخرى، وهذا ما فعله ابن رشد في البداية، فإنّه لم يكتب عن الحبس شيئاً.وأحسن صُنْعاً حين رَجَّحَ إلحاق الولد غير الشّرعي (ولد الزنا) بأبيه عند انعدام الفراش (الزانية ليست في ذِمَّة زوج) إذا استلحقه والده، وهذا حلٌ مهمٌ حفظاً للأنساب، وتفادياً للتّشرُّد والضياع على عكس ما ذهب إليه بعضهم من المنع، مع أنّ حفظ الأنساب من مقاصد الشريعة، وغاياتها في الحياة الاجتماعية (ج4، ص829)، استناداً إلى ما فعله عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وهو ما ذهب إليه ابن القيم في زاد المعاد 5/.375 أمّا رأيه في الفوائد الربوية في أن ما أخذه النّاس من تعامل مع البنوك فيجب عليهم بأن يرجعوا ما أخذوه ويتخلّصوا منه (ج5، ص506)، فربما يصحُّ القول بأن يمنحوه للفقراء، وأن لا يعيدوه لفائدة البنك الّذي يكون ربّما أجنبيا يستعمله اليهود أو غيرهم في محاربة المسلمين، وقد أفتى أبو حامد بذلك في الأموال المكتسبة بطريق غير شرعي، أموال الحرام. كما أنّه لم يكتب في التأمين، وإنّما نَقَل فتوى الأزهر في التّأمين على الحياة (ج5، ص843). ويلاحظ أنّ المؤلف في كلامه عن الحجّ والإحرام لم يشر تماماً إلى الفتاوى المعاصرة في جواز الإحرام من جدّة، ومن المفتين بذلك الشيخ محمد الطاهر بن عاشور، والشيخ أحمد حماني، وغيرهما، مع إفتاء الفقهاء قديماً بذلك بالنسبة لركاب السفن من الحجاج، كما في بعض حواشي شروح خليل، فهل يمنع صاحب هذا التأليف من ذلك؟ الواقع أنّ اجتهاد المؤلف يستحق الاهتمام والتّقدير، فهذا أوّل كتاب فقهي في الجزائر فيما أعلم يدخل فيه مؤلفه هذا النّوع من المشكلات المستجدة، ولم يقتصر على بحثها خارج المصنّفات الفقهية، ولا شك أنّه مرجع مهم في الفقه المالكي مع الأدلة الفاحصة من الآيات والأحاديث، ونقدها والتثبت منها، وحبّذَا لو وضع مسرداً للمصادر والمراجع في آخر الكتاب، فضلاً عن مسارد الآيات والأحاديث والأعلام.