ممّا لا شك فيه أنّ للصّوم فوائد جليلة، غفل عنها الجاهلون، فرأوا فيه تجويعًا للنّفس وإرهاقًا للجسد، وكبتًا للحرية، لا داعي له ولا مبرر، لأنه تعذيب للبدن دون فائدة أو جدوى.. وعرف سرّ حكمته العقلاء والعلماء فأدركوا بعض فوائده وأسراره وأيّدهم في ذلك الأطباء، فرأوا في الصّيام أعظم علاج، وخير وقاية وأنجح دواء لكثير من الأمراض الجسدية، الّتي لا ينفع فيها إلاّ الحمية الكاملة، والانقطاع عن الطعام والشّراب مدّة من الزمن، والّتي سنتناولها إن شاء الله في حينها، ولكنّنا نذكر بعض الحكم الروحية الّتي هي الأساس لتشريع الصّيام. إنّ الله عزّ وجلّ ما شرع العبادات إلاّ ليربّي في الإنسان ملكة التّقوى وليعوّده على الخضوع والعبودية والإذعان لأوامر الله العليّ القدير. فالصّيام عبودية لله، وامتثال لأوامره واتّقاء لحرماته، ولهذا جاء في الحديث القدسي الّذي رواه البخاري ومسلم: ''كلّ عمل ابن آدم له إلاّ الصّوم فإنّه لي وأنا أُجزي به، يدع طعامه وشرابه وشهوته من أجلي''. فشعور الإنسان بالعبودية لله عزّ وجلّ والاستسلام لأمره وحكمه هو أسمى العبادة وأقصى غاياتها، بل هو الأصل والأساس الّذي ترتكز عليه حكمة خلق الإنسان، قال تعالى: ''وما خلقتُ الجن والإنس إلاّ ليعبدون ما أريدُ منهم من رزق وما أريدُ أن يُطعمون إنّ الله هو الرزاق ذو القوّة المتين'' الذاريات65-.58