بهذا العنوان الاستفهامي، استهل الكاتب ومؤسس القنوات التلفزيونية المتخصصة في فرنسا، ''سارج شيسك'' مقاله الذي كتبه قبل سنوات لطرح العلاقة بين التلفزيون وجمهوره. لقد لاحظ هذا الكاتب الاختلاف الكبير بين رأي الفرنسيين حول التلفزيون، والذين لا يترددون في الإفصاح عنه في عمليات استطلاع الرأي، وما يشاهدونه يوميا في شاشات التلفزيون. إذ يذكر، على سبيل المثال، أن القناة الأولى من التلفزيون الفرنسي هي الأقل تقديرا وأهمية لدى الفرنسيين حسب استطلاعات الرأي. لكن قياس المشاهدة يبيّن عكس ذلك تماما، حيث يؤكد أنها أكثر مشاهدة مقارنة ببقية القنوات التلفزيونية الفرنسية. وبالمقابل يولي الفرنسيون أهمية أكبر وتقديرا للقناة الفرنكو- ألمانية ''أر.تي'' ذات الطابع الثقافي. وهذا ما تنفيه عمليات قياس المشاهدة التي تؤكد أن هذه القناة التلفزيونية تحظى بأقل عدد من المشاهدين مما رشحها لأخذ الرتبة الأخيرة في سلم المشاهدة. ليس هذا فحسب، بل يذهب الكاتب المذكور إلى القول أن قمة التعارض تتجلى أكثر حول برامج ''تلفزيون الواقع''. فأغلب الفرنسيين يجزمون، في استطلاعات الرأي، أن هذه البرامج تافهة وسطحية. لكن نتائج قياس عدد مشاهديها تؤكد تزايدهم باستمرار. ويضيف الكاتب ذاته قائلا: ''لو كان هؤلاء المشاهدين على حق فيما ذهبوا إليه لاستطاعت البرامج الثقافية والفكرية في القنوات التلفزيونية أن تستقطب أكبر عدد من المشاهدين''. فمسؤولو القنوات التلفزيونية لم يكفوا عن التذمر من هذه البرامج التلفزيونية التي تحولت إلى عامل طارد لجمهور التلفزيون! هل يمكن أن نستنتج مما سبق أن الفرنسيين منافقون أو أنهم يعانون فعلا من مرض انفصام الشخصية؟ كلا، يجيب الكاتب، لاعتقاده أنهم ضحايا تناقضهم فقط. ويرى أن هذا التناقض إيجابي لكونه يعبّر عن عدم رضاهم عما يشاهدونه من جهة، ويكشف عن تطلعهم لمشاهدة الأفضل! من جهة أخرى. لمناقشة التناقض المذكور، إذ سلّمنا أنه كذلك، يجب التأكيد على مجموعة من المعطيات، منها أنه لا توجد قناة تلفزيونية واحدة تجذب كل الجمهور طيلة اليوم كله. فالمفروض أن لكل قناة تلفزيونية برنامجا أو بعض البرامج التلفزيونية القليلة التي تستقطب أكبر عدد من المشاهدين، وتشكّل قاطرة تجر عربة شبكتها البرامجية. وخارج مدة بث هذه البرامج يزداد القفز في المشاهدة من هذه القناة إلى غيرها. فأخذت مؤسسات قياس الجمهور هذه الحقيقة بعين الاعتبار. ويلفت هذا التناقض نظر الباحثين والمهتمين إلى أن البحث الكمي لا يقدم، دائما، نتائج صادقة ودقيقة. فالناس تجيب عن أسئلة الاستبانة وهي أسيرة ''الضمير الجمعي''، أو تخضع إلى الرأي السائد أو الشائع حتى لا تخرج عن الإجماع أو للتعبير عن انتماء إلى الأغلبية الحاضرة بآرائها وأفكارها في '' الفضاء العام''. فلو تم استخدام أدوات البحث الكيفي، ولوحظ المشاهدون في أثناء مشاهدتهم للبرامج التلفزيونية لكانت نتائج البحث تعبّر عن التقارب بين أرائهم في القنوات التلفزيونية وبين ما يشهدون فعلا، أو أنها فتحت حقول أخرى للتفكير في ''التناقض'' المذكور. إن نتائج قياس المشاهدة التلفزيونية لا يمكن أن تعد أداة لتقييم نوعية البرامج، أي الحكم عليها بالجودة أو الرداءة. فأفلام ''الجنس'' تحظى بعدد كبير من المشاهدين، بل تتفوق على كل البرامج التلفزيونية، حتى وإن افتقدت السيناريو وأخرجها مخرج سينمائي هاو لا يملك خلفية عن التصوير والمونتاج. فهذا المثال يبين أن الارتهان إلى قياس المشاهدة التلفزيونية وحده لا يخدم دائما القنوات التلفزيونية. هذا ناهيك أن بعض البرامج التلفزيونية أو حتى القنوات التلفزيونية المتخصصة لا تروم جذب أكبر عدد من المشاهدين، بل تطمح إلى استقطاب شريحة معينة من الجمهور لأنها تقدّم قيمة ثقافية وتربوية وعلمية مضافة. ومشاهدة هذه القناة التلفزيونية أو تلك لا يعني بالضرورة أن المشاهد يحبها، بل يدل، في بعض الأحيان، عن الرغبة في تَسْجيةّ الوقت أو يكشف عن الرغبة في ملء الفراغ حتى بالفراغ. أخيرا، هل يملك التناقض المذكور أعلاه قيمة إيجابية في المطلق حتى وإن كان يعبر عن تطلع المشاهدين نحو الأفضل، خاصة إذا كان بديل القنوات التلفزيونية التي ينبذها المشاهدون غير متوفر؟ الإجابة تقدمها التجربة الجزائرية في مجال التلفزيون.