سقوط قتلى، واعتصامات في ميدان التحرير وشعارات تنادي بإسقاط النظام، عناوين ألفها المصريون وكل من تابع الثورة المصرية التي أفضت إلى سقوط نظام مبارك. هذه العناوين نفسها تُعاش من جديد في مصر، بعد إصدار الرئيس المصري، محمد مرسي، إعلانا دستوريا قال بأنه لتحصين قراراته ورعاية مصالح الأمة وحماية ثورة 25 جانفي. لكن معارضيه رأوا بأن مرسي يسير في طريق إعادة إنتاج دكتاتورية تحت غطاء ديني وعبر إسكات القضاء وتحجيم دوره. هذا الوضع، الذي قالت عنه واشنطن بأنه غير واضح، أدخل مصر في نفق مظلم يصعب التكهّن كيف ستكون نهايته، خاصة أمام تشبّث كل طرف بمواقفه، وأصبح كل واحد يستعرض عضلاته أمام الآخر بتنظيم المليونيات الداعمة لأطروحاته، ما جعل مصر مفتوحة على كل الاحتمالات، ومنهم من يتحدّث عن ثورة جديدة لإسقاط نظام الإخوان. شظايا حرب مرسي والنائب العام تفجّر الشارع المصري ''الإعلان الدستوري'' يضع مصر في مفترق الطرق ماذا يجري في مصر؟ هل هي حرب بين الإسلاميين واللبيراليين أم بين الرئاسة والقضاء؟ أم هي حرب شخصية بين الرئيس مرسي والنائب العام امتدت شظاياها إلى الشارع؟ وبالرجوع إلى خلفيات الأزمة السياسية المحتقنة في مصر وخلفيات هذا الصراع، نجد أن ظاهرها رفض لميلاد فرعون جديد، وباطنها رغبة كل طرف في توجيه دفّة الثورة المصرية نحو الطريق التي يريدها. حرب النائب العام، عبد المجيد محمود، المحسوب على نظام مبارك ضد القيادي الإخواني، محمد مرسي، بدأت منذ اليوم الأول لانتخابه رئيسا بعد فوزه بالرئاسيات المصرية، بفارق بسيط عن خصمه الجنرال أحمد شفيق، عندما حاول النائب العام الطعن في شرعية فوز مرسي بالرئاسيات، استنادا إلى البلاغات التي قُدّمت للنيابة العامة حول نشوب تزوير للانتخابات، إلا أن مرسي ربح هذه الجولة أمام النائب العام، كون اللجنة القضائية التي أشرفت على الانتخابات الرئاسية اعتبرت قراراتها نهائية، لا يجوز الطعن عليها، وفقاً للإعلان الدستوري الصادر في 17 مارس 2011. إلا أن الرئيس مرسي كان قد تلقّى ضربة قوية من المحكمة الدستورية العليا، التي قرّرت حلّ البرلمان في جوان 2012، قبيل أيام من انتخابه رئيسا للجمهورية، واستعاد المجلس العسكري، بقوة القانون، السلطة التشريعية بعد أن خسر السلطة التنفيذية، وأصبح الصراع على أشدّه بين ثلاث قوى رئيسية في هذه المرحلة: الرئيس مرسي الذي يمثّل جماعة الإخوان والإسلاميين إجمالا وبعض القوى الثورية، والمجلس العسكري الذي يمثّل الجيش، والمؤسّسة القضائية التي أصبح لها نفوذ قوي في النظام الجديد، بعد أن حُلّت المؤسسة التشريعية ممثّلة في البرلمان، وانغمست أكثر في الشأن السياسي. وربحت المؤسسة القضائية معركة ثانية ضد الرئيس مرسي، عندما أجبرته على التراجع عن قراره بدعوة البرلمان المحلّ إلى الانعقاد، ما أعطى صورة سلبية عن الرئيس مرسي، الذي ظهر عاجزا عن تنفيذ وعوده الانتخابية التي تعهّد بها أمام أنصاره خلال الحملة الانتخابية، إلا أن الآتي أعظم... ففي خطوة مفاجئة، قام الرئيس محمد مرسي بما عرف ب''الانقلاب المدني''، عندما أحال وزير الدفاع السابق، ورئيس المجلس العسكري، المشير حسين طنطاوي ورئيس أركان الجيش، سامي عنان، إلى التقاعد في 12 أوت 2012، والأكثر من ذلك حلّ المجلس العسكري وسحب منه سلطة التشريع، وبذلك أصبح مرسي ليس فقط رئيسا بكامل الصلاحيات التنفيذية، بل أصبح يملك سلطة التشريع التي سحبتها المؤسسة القضائية من البرلمان ذي الغالبية الإسلامية، وقدّمتها على طبق من ذهب للمجلس العسكري، قبل أن ينقلب السحر على الساحر. وإن كانت المؤسسة العسكرية قد انكفأت على نفسها وتركت السياسية للسياسيين، بعد اتهامها بالتقصير في أداء واجباتها العسكرية بعد مقتل 14 جنديا في سيناء، إلا أن المؤسسة القضائية تولّت قيادة الحرب ضد الإخوان بالنيابة عن الأحزاب السياسية والمؤسسة العسكرية. وقاد المعركة، هذه المرة، النائب العام، عبد المجيد محمود، الذي استفز الشعب المصري المطالب بمعاقبة قتلة الثوار بمنحه صكوك البراءة للضباط وأفراد الأمن وجميع المتّهمين بقتل الثوار، خاصة في واقعة الجمل، فتظاهر الناس لإقالة النائب العام ومحاكمته بتهمة إضاعة أدلة إدانة أزلام مبارك، ووافق ذلك هوى في نفس مرسي، ورأى أن الفرصة مواتية لاقتلاع أحد أعمدة مبارك من السلطة القضائية. ولأن ذلك غير ممكن قانونيا لجأ إلى حيلة ذكية، فعيّن النائب العام سفيرا في الفاتيكان، ولأن القانون يمنع ازدواجية المناصب، فمن الطبيعي أن يستقيل عبد المجيد محمود من منصبه، لكن هذا الأخير رفض أن يركب اللعبة وأخذته العزة بالنفس وتحدّى الرئيس وآزره نادي القضاة، ومن ورائه فلول النظام السابق، وانحازت إليه حتى بعض وسائل الإعلام والقوى الثورية المعادية للإخوان، فما كان من الرئيس مرسي سوى التراجع مرة ثانية، والإقرار بهزيمته أمام النائب العام الذي عيّنه الرئيس المخلوع حسني مبارك. لم يستسلم مرسي وحصّن نفسه بمجموعة من المستشارين من المؤسسة القضائية، على غرار الإخوة مكي، وعندما بلغه أن النائب العام يحضّر لهجوم قوي يحلّ فيه اللجنة الدستورية المكلّفة بإعداد الدستور ذات الغالبية الإسلامية، والأكثر من ذلك إلغاء الإعلان الدستوري المكمّل وإعادة المجلس العسكري مدعّما بالسلطة التشريعية التي انتزعها منه مرسي، وقبل حدوث ذلك قرّر الرئيس المصري القيام بهجوم استباقي، وأصدر قرارا تشريعيا يعطيه الحق بإقالة النائب العام وإعادة محاكمة المتّهمين بقتل الثوار، ويحصّن قراراته من طعن المؤسسة القضائية، ومن أي نية للمؤسسة العسكرية للعودة إلى الساحة السياسية من ''الشباك''. غير أن هذا القرار الذي لم يسبقه في جرأته حتى مبارك، فتح أمام مرسي أبواب جهنم، ولأول مرة يتّحد خصوم مرسي، رغم اختلافهم، على رفض قراره الدستوري، ووصفوه بالديكتاتور والفرعون وطالبوا برحيله، رغم أن أنصاره خرجوا بعشرات الألوف لتأييده، ما دفع الاستقطاب والتباين بين الطرفين إلى أشدّه، الأمر الذي قد ينذر بالأسوأ إن لم يتم امتصاص هذا الغضب الجماهيري.