الحكومة ''تتنازل'' عن سياسة ''لعبة القط والفأر'' هل ستنجح الحكومة اليوم في أن تفرض منطق ''القانون فوق الجميع'' و''هيبة الدولة يجب أن تعود''؟ وهل يعني القضاء على الأسواق الفوضوية وتنظيم الشوارع الرئيسية وحركة المرور بداية عهد جديد لجزائر لا تتراجع عن فرض قانونها، على حساب ربح الوقت والحفاظ على ''كرسي'' أي مسؤول على أي مستوى كان. الكثير من الأسئلة تُطرح اليوم، بعد أن كسرت الدولة حاجز خوفها من شبح وسرطان الفوضى واللاأمن والدوس على كل القوانين، ولو كان ذلك أمام من يطبّقها، لتصنع لنفسها صورة جديدة كادت تغيب عن كلّ الجزائريين، بعد أن استُبدلت بقانون الغاب وحرب الشوارع والعصيان. عندما تخلّت وزارة الداخلية والجماعات المحلية في 2010 عن قرار القضاء على التجارة الفوضوية، بعد احتجاجات الزيت والسكر، كما أُطلق عليها، اعتقد الكثير من الشباب بأنه لن يكون منع للتجار الموازية، وستكون هناك حرية ممارسة أي نشاط في الرصيف، أو حتى في قارعة الطريق تكون ''تحت الرعاية السامية للدولة''، كما صار منطق توقيف وركن السيارات في أي مكان واقعا ملموسا، بالإضافة إلى التهرّب من تسديد الفواتير واقتناء قسيمة السيارات وسرقة الكهرباء والغاز. وعجزت الحكومة، وقتها، عن التحكّم في أهم خيار لها، وهو إما تطبيق القانون أو ترك الغليان يزحف على مؤسساتها، من خلال ''ثورة الجبهة الاجتماعية''. وربط، يومها، الكثير من المتابعين للوضع ''تراجع واستسلام'' الحكومة بمحاولتها ربح الوقت لا غير، خصوصا وأن هناك من هم في السلطة ''فوق القانون''، ولا يمكن لأن يفرض القانون على المواطن أيضا، الذي يدرك، كل الإدراك، بأن ''مساومة'' الدولة بالعنف والغضب والاحتجاج وقطع الطرق صار ممكنا وواقعا معاشا. بعد مرور أكثر من سنة على الاحتجاجات التي اندلعت تحديدا في 5 جانفي 2010 ، واستمرار لهيب الثورات العربية، وانسحاب كل الأصوات ومحاولات الغضب على النظام الجزائري، عاد مشروع ''فرض هيبة الدولة'' إلى طاولة النقاش، ودقّت أجهزة الأمن ناقوس الخطر، بعد أن صارت الجريمة والفوضى تعشعش في وسط المدن والأحياء ليل نهار. ظروف وإجراءات استثنائية تشير مصادر ''الخبر''، من وزارة الداخلية والجماعات المحلية، إلى أن ''التقارير المتتالية التي كانت تصل من مصالح الأمن، أقرت بأن المشاكل الاجتماعية تحوّلت على أمنية، ومع مرور الوقت سيتأزّم الوضع وتتحوّل إلى سياسية، ووقتها لا يمكن التحكم فيها إطلاقا، ولهذا وجب التدخّل حالا''. وعزّز فكرة فرض النظام من جديد قدوم اللواء عبد الغني هامل على رأس المديرية العامة للأمن الوطني، الذي رأى بأن ''عدم تمكّن أعوانه من فرض الأمن، في عدد من أحياء العاصمة، صار حرجا لا يمكن أن لا يُسكت عنه''. وتضيف مصادرنا بأن ''كل ما كان يؤخّر الإقدام على أولى الخطوات هو الانتخابات التشريعية، والحديث عن التغيير الحكومي، لكن الأوامر أعطُيت بضرورة التعجيل بالفعل، مهما كانت الظروف السياسية''. وصدرت التعليمة الوزارية المشتركة بين كل من وزارة الداخلية والجماعات المحلية ووزارة التجارة، التي تقضي بتشكيل لجان ولائية، يترأّسها الوالي، وحُدّدت لها ما بين 21 مهمة رئيسية، تنطلق بداية من ''تشخيص الوضعية في كل ولاية''، تليها ''عملية إحصاء لعدد التجار الفوضويين بمشاركة كل الإدارات المعنية من مديريات التجارة والبلدية والدائرة ومصالح الأمن، على أن تكون العملية في الميدان''. أما ثالث الخطوط العريضة للخطة فتُلزم كل اللجان بضرورة ''إعطاء اقتراحات لتجسيد الحلول الميدانية، من خلال إنشاء أسواق جوارية على مستوى كل ولاية، على أن يتم توزيع الغلاف المالي بحسب احتياجات كل ولاية''. وينصّ الإجراء الرابع على ''إعادة إدماج التجار الذين تم إحصاؤهم في هذه الأسواق، على أن يتم إقصاء من لم ترد أسماؤهم في القائمة المعدة، ويحصل التاجر الفوضوي على وثيقة محضر التنصيب''. ومن بين الإجراءات الأخرى ''السهر على عدم رجوع الباعة الفوضويين إلى الفضاءات التي تم إزالتها، بالتعاون مع مصالح الأمن''، وكان العنوان العريض لهذه الإجراءات ''إعادة فرض هيبة الدولة''، وصُنّفت العمليات التي مسّت مختلف ولايات الوطن، وتحديدا الجزائر العاصمة، بأنها ''إجراءات استثنائية، في ظروف استثنائية''. ولم يكن تجسيد كل هذه الإجراءات سهلا، بل واجهه رفض واحتجاج من طرف الباعة الفوضويين، الذين ظلّوا يمارسون ويحافظون على تجارتهم غير القانونية لأزيد من 15 عاما. واندلعت الاحتجاجات في كل من الجزائر العاصمة وسطيف، خصوصا وأن الجميع كان يظن بأنه يستحيل أن تخطو السلطات الولائية خطوة نحو ''نار الأسواق الفوضوية، التي صارت واقعا منذ 1994''. الصراع دائم وبالموازاة مع تحرّك الأجهزة الأمنية، كانت الأصوات تتعالى من اتحاد التجار والحرفيين الجزائريين، الذي رفض الاستمرار في الوضعية التي تؤثّر على نشاط التجار القانونيين والاقتصاد الوطني بشكل كبير. ويقول الأمين العام والناطق الرسمي للاتحاد، صالح صويلح: ''حذّرنا من أن تغرق الجزائر في منطق ''البازار''، وأن ينفلت الوضع ولا يمكن التحكّم فيه مع مرور الوقت، وحدث ما توقّعناه، لكننا دافعنا عن التجار القانونيين، الذين يسدّدون الضرائب، وتُفرض عليهم الرقابة الدائمة من مديرية التجارة ومصالح البلدية والشرطة والدرك، في حين يربح من يقابلهم بعربته ربحا صافيا بلا تكاليف وأعباء إضافية''. ويضيف صويلح: ''رغم أننا كنا ندعوا للقضاء على التجارة الموازية، إلا أننا قدّمنا حلولا تسمح بامتصاص الباعة الفوضويين، الذين يزيد عددهم عبر الوطن 200 ألف شخص، خصوصا وأنهم يكسبون قوت يومهم من التجارة''. وكانت ''خطوة إزالة الأسواق الفوضوية بداية فرض منطق دولة القانون، الذي كان هدفا لا يمكن تجاوزه، ونحن ساندناه وشاركنا اللجان الولائية في عملية اقتراح الحلول وتجسديها بفتح باب المفاوضات''. وفي المقابل يستدعي الوضع اليوم ''النظر بعين المسؤولية إلى التجارة بشكل عام، لأن تنظيمها اليوم يفرض مواصلة الصراع مع الحكومة، من أجل أن تعاد للتاجر هيبته ودوره وقيمته، وألّا يتحوّل على الجهة التي تفرض عليها عصا الطاعة بفرض الضرائب والغرامات المالية وفقط''. ويلح الناطق الرسمي والأمين العام للاتحاد على أن ''المفاوضات القادمة مع وزارة التجارة والمالية ستفتح ملفات أخرى، تتعلّق بتنظيم العلاقة التي تجمع التاجر بالإدارة، لمنع أي تجاوزات وتسيّب''. هيبة الدولة كلٌ لا جزء يرى الدكتور والباحث الاجتماعي، ناصر جابي، بأنه ''لا يمكن للدولة الجزائرية أن تتعامل بهيبة وصرامة في قضايا وأن تتنازل عنها في قضايا مسائل أخرى''، وأضاف المتحدّث، في تصريح ل''الخبر''، بأنه ''لا يمكن أن ننسى كدولة ونتغافل عن مشاكل وقضايا لسنوات ونتذكّرها بعد وقت آخر، لأن ذلك لا يتماشى مع دولة المؤسسات أصلا''. ويتساءل الباحث قائلا ''لماذا هذا السكوت عن مثل هذه الممارسات، فهل التسامح مع ظاهرة الفساد والرشوة ومع كل المعاملات الإدارية البيروقراطية والممارسات الاقتصادية التي تغرق في الفساد مقبول حاليا، وعدم التساهل مع الأسواق الفوضوية هو غير المسموح به؟''. ويتابع ناصر جابي ''المواطن يتساءل هل هناك فعلا دولة؟ وهل الأمر يتعلّق بشرعية من هم في السلطة، هل يحسّون بأن ليس لهم شرعية أصلا لتطبيق القوانين؟''. وبخصوص ما حصل مع ظاهرة القضاء على التجارة الفوضوية وإزالة الأسواق غير القانونية، لا يعدو أن يكون مجرّد جزء بسيط من دور الدولة. وأمام هذا، ينتظر الجميع هل ستتطوّر إلى أبعد من ذلك، لأن هذه الأسواق الفوضوية لم تعد تفرّق بين بيع الخضروات وبيع المخدرات، إلى أن أصبحت هناك عصابات مسلّحة في الأحياء التي تشهد مثل هذه التجارة الفوضوية، بل إنها تحوّلت إلى مناطق محرّمة على مصالح الأمن، وباعتراف من هذه الأجهزة. وبالنظر إلى التحليل الاجتماعي السياسي للوضع الراهن في الجزائر، من خلال العمليات الواسعة للقضاء على التجارة الموازية، يبقى مشروعا طرح السؤال: هل سنبقى عند هذا المستوى، أم سنتنازل كدولة بناء على موازين القوى؟ ويضيف ناصر جابي: ''الأكيد اليوم أن هيبة الدولة هي كل وليست جزءا، أم أن المنطق الذي تتعامل به الدولة اليوم، هو لا تتحدّثوا في القضايا والمجالات السياسية ونتنازل لكم في المجال الاجتماعي''. ويمكن لهذه الفرضية أن تطبّق في الميدان، بالنظر إلى أن الظروف الاقتصادية والمالية للجزائر تسمح بذلك، مع العلم بأن القضايا الاجتماعية في الجزائر كلما تراكمت تحوّلت إلى قضايا أمنية، ومنها إلى مسائل سياسية بالضرورة. ومن هذا المنطلق، يطرح الوضع عدة تساؤلات عن عدم جدوى لعبة القط الفأر التي لطالما سادت يوميات الجزائري، الذي يتعامل مع القانون بمنطق الاحتيال على تجسيده في الميدان، ويستفيد من تنازل السلطة التي تخاف على موقعها وشرعيتها المقيّدة والمربوطة بأهواء وظروف محددة. سرطان التجارة الفوضوية.. وماذا بعد؟ تعني عمليات القضاء على التجارة الموازية، مؤخّرا، أن هذا السرطان الذي ظلّ ينخر الاقتصاد الوطني لسنوات، وصار يموّله عدد من المستوردين وبارونات التجارة الذين لا تساعدهم القوانين والنظام، سيتأصل ليكون الحل لعودة هيبة الدولة وفرض القانون، وينعكس الأمر على عدد من المظاهر التي بدت تسود على الأقل المدن الكبرى. وتفرض اليوم على أجهزة الأمن ظروف ومعطيات جديدة، في ظل النظام الذي بدت تستعيده أهم الشوارع التي كانت حكرا على ''جماعات الفوضى''، حيث يلحظ المواطن بأن الركن العشوائي للسيارات لن يتم التسامح معه، حيث أُعطيت تعليمات صارمة للشرطة بأن ''تحجز السيارات التي تعرقل حركة المرور وتتوقّف في أماكن ووقت غير مسموح به''. وإن كانت المهمة تبقى شبه مستحيلة، بالنظر على أن المواطن الجزائري تعوّد على ''عدم احترام كل ما هو قانوني'' بسبب العشرية السوداء والانفلات الأمني وغياب الدولة في بعض الأحيان، فإن التعليمات تنصّ على أنه لا يمكن التراجع عن أي قرارات وخطوات تتخذ، خصوصا مع قدوم الوزير الأول، عبد المالك سلال، الذي اتجه إلى حد اختيار 5 ولايات نموذجية، هي الجزائر العاصمة ووهران والبليدة وقسنطينة وعنابة، من أجل تطبيق مخطّط التهيئة والتنظيم، بالنظر إلى أن المحيط العام للمدينة هو من يفرض احترام القوانين وعودة هيبة الدولة، في الوقت الذي يزن فيه المواطن ''تمرده'' بغياب الدولة وعدم تأديتها لمهامها تجاهه وتجاه المدينة. وينتظر أن تتوسّع دائرة ''فرض الاحترام لمؤسسات الدولة''، معاقبة ومحاسبة، وكذا كل سارقي الكهرباء والغاز والبناءات الفوضوية واحتلال سطوح العمارات والتهرّب من تسديد الضرائب، وغيرها من العيوب التي تتكشّف وتبتعد عن مواجهتها الدولة. ويبقى اليوم رهان الحكومة والولاة ورؤساء البلديات، الذين تمّ انتخابهم في 92 نوفمبر الماضي، أن تستمر آلة احترام القوانين، لأن أي تنازل سيعيد الوضع إلى نقطة الصفر، ما يعني انفلاتا أمنيا واجتماعيا لا يمكن معرفة أو توقّع عواقبه، لأنها، بلا شك، ستكون وخيمة للغاية. ويبقى السؤال المطروح: هل ستتمكّن الدولة من فرض سيطرتها وتعويد المواطن على احترام القانون، في الوقت الذي تعجز فيه هي عن تنظيف الشوارع من الأوساخ ومحاربة الفساد بأتمّ معنى الكلمة؟ مؤشرات أحصت الداخلية 2500 نقطة بيع سوداء تشغّل 200 ألف شخص. تتكبّد خزينة الدولة خسائر كبيرة تقدّر ب 400 مليار سنويا بسبب التجارة الموازية. 47 مليار سنتيم ميزانية خاصة بإنشاء أسواق بالجملة للخضر والفواكه منذ 2009 . 2 مليون تاجر شرعي، أغلبهم في المواد الغذائية وبيع الملابس.