قبل الحديث عن النقد الأدبي في الجزائر نفضِّل، بداية، الانطلاق من الحديث عن النصّ ذاته، أيْ من تلك الكينونة التي يحقق النقدُ وجودَه بها، باعتباره -النقد -مرحلة تالية للنص وتابعة له في كل حال. وإذْ ينظرُ المتتبّع للمشهد الثقافي والأدبي عندنا إلى ما يصدر من أعمالٍ أدبية تنتمي لأجيالٍ متباينة، وتندرج ضمن أجناس أدبية مختلفة وحساسيات إبداعية متمايزة أيضا، يكتشفُ بأنّ النقدَ الأدبيَّ يكادُ يكونُ غائبا تماما عن الساحة، وتكادُ النصوصُ الجديدة تقف وحيدة-كاليتيم تماما- تراقبُ شُحَّ القراءة، وانشغال ''القارئ'' الجزائري بضرورات الحياة متناسيا حقه كقارئ، وملتهيا عن رغيف الأدب والثقافة برغيف الذرة والخبز. هي، أيضا ، أي النصوص، من جهة أخرى، ترقبُ النقدَ يوغلُ في الغيابِ تاركا وراءه ركاما من الأعمالِ المتفاوتة من حيث الجودة والرداءة، فاتحا المجال لكلِّ من هبّ ودبّ لأنْ يمتلك اسما أدبيا في واقع ثقافيٍّ يفتقر إلى ''الغربال'' النقديّ، على حدّ تعبير ميخائيل نعيمة في عنوان كتابه المشهور. وإذْ يُفترض بالنقدِ أنْ يكون صديقا للنص، متابعا له في كل خطوة يسيرُها، ملازما إياه كظلِّه تماما، نجدُه بعيدا عنه كل البعد، متغافلا عن متابعته، غارقا في غيابين كليهما يجعله أكثر نأيا عن النص، نوضحهما فيما يلي: الأوَّلُ غيابٌ عن الممارسة النقدية التطبيقية، وهي تلك التي تتعاطى النصَّ بالدراسة والتحليل أو بالقراءة والتأويل بحسب ما تقتضيه طبيعة النص المدروس، والمقصود هنا تلك الخطوة الجادّة التي يخطوها النقد صوب النص بغرض استكناه جوهره ومعرفة سرّ تشكُّله الفني والجماليّ. وإذ يغيبُ النقدُ عن أهمّ ممارسة تمنحُه ماهيته وكينونة وجودِه الفعلية، تجدُه حاضرا في التنظير، بل في إعادة التنظير لأفكارٍ ومفاهيمَ بالية انتهى العالم منها منذُ عقود. ولعلَّ في مثلِ هذا الانهماكِ في التنظير المكرورِ نوعا من التهرّب الخفيّ، وربما المفضوح، من تعاطي النص ومتابعته بالشكل الذي تفرضُه طبيعة النقد ذاته. ومن هذا الحال يتحوّل المشهد الأدبيّ، وربما قد تحوَّلَ، إلى فسيفساء مشوّهةٍ تحملُ قليلا من الحجارة الكريمة المصقولة وركاما من الحصى والحجارة التي اتخذتْ لنفسها مكانا في الساحة الأدبية، نظرا لغياب الرقيب النقدي، بدلَ أعمالٍ حقيقية تحاول أنْ تحافظ على خضرتها في فلوات التهميش القاتلة. أما الغيابُ الثاني، وهو أخطر في نظرنا، فيتمثَّلُ، بكل أسفٍ، في التعالي على النَّصِّ، وهذه الأزمة ليست جزائرية فقط، بل هي منتشرة في جميع الدول العربية. ولعلَّ منشأ هذا التعالي هو في انتصار الناقد للنظرية، وللمنهج النقدي الذي يسير وفق مفاهيمه على حساب النص، وأسوأ ما قد ينتجُ عن مثل هذه الممارسة هو السقوط في ''الإرغام'' وفي''الأحادية''؛ وإذ يؤدِّي الخطأ الأول، أيْ الإرغام، إلى إخضاع النصوص إلى ما لا تستجيب له من النظريات والمناهج، ما يدفع بالناقد إلى ليِّ أعناقها وتحميلها ما لا تحمله من الدلالات وما لا تحتمله أصلا، يؤدِّي الخطأ الثاني، وهو الأحادية، إلى إجهاض إمكاناتِ النصِّ على التعدد أمام مرايا التأويل، وقدرته على التلوّن على أكثر من دلالة ومعنى. ولا ريبَ في أنَّ هذا الحال هو أخطرُ على النص، لأنَّ هذا الأخير يُحافظ على بقائه بالتعدد لا بالأحادية. وإذا تجاوزْنا هذا الواقع المربك الذي يعيشُه النقد عندنا، فإننا لن نجدَ، في حالاتٍ كثيرة، نقدا متابعا لما يُكتب ويُنشر، وإنما مجموعة من الدراسات الأكاديمية التي تنتصر، كثير منها، للنظرية لا للنصِّ، وهي تحصر النصّ في زاوية النظر التي تؤطرها تلك التأسيساتُ النظرية التي يتمّ إسقاطها على كثيرٍ من الأعمال الأدبية، وأحيانا، في حال كان الدارس مبدعا، يتحوّل نقدُه إلى محاكمٍ خفيّ للنص يقيس ما يقوم بدراسته بما يكتبه هو، الدارس، من إبداع، وهنا تصبح المشكلة أكبر. غير أنَّ المؤسفَ، في كل ما ذكرناهُ إلى الآن، هو كون النقد، إنْ صحّ تسمية كل ما يُكتب حول النص نقدا، قد خرج عن وظيفته الحقيقية، ممثلة في استكناه خصائص النص المدروسة والإحالة على ما تخلّف فيه عن الجمالية المطلوبة، وتخلَّى عن دوره في تصفية النصوص الرديئة التي تخلو من موهبة ومن اشتغالٍ فنيٍّ حتى لا يكثر الرديءُ فيَغُمُّ على الجيد من النصوص؛ تخلى عن هذا كلِّه وتحوَّل إلى نوعٍ جديد من مديح النصوص، التي لا تحقق أدنى شروط الجنس الأدبيّ الذي كُتبتْ فيه، أو إلى محامٍ عن نصوص أخرى من منطلقات غير نقدية تماما، قد تصل بعضها في الإسفاف إلى المحاباة والصداقات. وينتج عن هذا كلِّه أنْ يتشاءم القارئ من النص الجزائري، أو تعميه جبال الرداءة المروّج لها نقديا، عن رؤية النصوص الحقيقية التي تعمى عنها عينُ الناقد الغارق في نظرياته المتعالية عن النص. بعدَ هذا تبدو أزمة النقد عندنا مستعصية أكثر من أزمة النص ذاته، فلئن كان هذا الأخير، أي النص، يناضل من أجل التأسيس لوجودِه ولرؤيتِه للعالم من حوله، فهو على الأقل يثبت حضورَه ويرسّخه. بينما يسعى النقدُ، بغيابِه، إلى ترسيخ الهوّة بينه وبين النصِّ، وهو، بغير قصدٍ، يرسّخُ هوة عميقة بين المتلقي وبين الكتابتين: كتابةِ النص (الكتابة الإبداعية) والكتابة على النص (الكتابة النقدية). وإذ نجدُ أنفسنا أمام هذه الهوّة التي وصفناها، والتي لا يستطيع أحد إنكارَها، نجدُ الأدب الجزائريّ أمام أزمة تلقٍّ عويصة، حوّلتْ جغرافيا الكتابة من أرض يقف عليها الجميع، كتّابا وقراءَ، إلى أرض فارغة إلا من المبدع ذاته، الذي تحوّل، في ظل واقع قراءة مخزٍ، إلى كاتب النص وقارئه، أو إلى كاتبٍ ينتج نصوصا معلَّبة تنتظر قارئا متخيّلا قد يمتلك وجودا واقعيا في مستقبل الأيام المجهول. هل يمكنُ القول، الآن، بأنّ أزمة التلقي هذه سببها غياب النقد؟ أم هو الدونكيشوت الواهم، الذي يسكن في قلب كل مبدع وناقد وقارئ، ويجعل كل واحد يعمى عن غيره ويوغل في قتالٍ سخيف ضدّ غيره وضدّ العالم؟ ربما، لكنّ الحقيقة الأكيدة، وفي ظل هذا الحال، تتمثّل في انصداع دائرة الخطاب عندنا، وانهيار الجسور الطبيعية بين أطراف بناء الخطاب. فالنصُّ في الجزائر يكادُ يُكتب لقارئ لا يقرأ، وهو، في الآن نفسه، ينتظر ناقدا لا يجيء ولا يقوم بدوره المطلوب منه، إما عزوفا أو عجزا!!! وسيظل الخاسر الوحيد، في هذا المشهد المترهّل، هو النص الإبداعي الذي لا يزال يناضل من أجل تحقيق وجودِه الفعلي ضمن واقع متصدع، آخر اهتماماته القراءة. وإذ يحيلنا هذا الحال إلى أزمة حقيقية على مستوى الكتابة الإبداعية والنقدية، يحيلنا كذلك إلى أزمة حقيقية على مستوى الإنسان العاجز عن ممارسة حقوقه في القراءة، والمفصول عن منابت المعرفة والفن، وهنا يُصبح الأمر أشدّ مأساوية مما كان عليه.