يجد المتأمل في الخط البياني لتاريخ مجتمعنا، في مختلف مراحله المدوّنة، أن هناك ثلاثة مطالب مندمجة، هي الحرية والعدالة والتقدّم، حرّكت مختلف التفاعلات التي توجّه فيه الحركة والسكون والهدوء والتمرد، ولا يكفي لفهم تلك الظواهر تطبيق مقولات النظريات الكبرى المستمدة من تاريخ أمم ومجتمعات أخرى، وكأنها من قوانين الفيزياء أو المسلّمات في علم الرياضيات. فلكل واقع مجتمعي عمقه التاريخي، وخاصة إذا تعلق الأمر بوتيرة التحوّل والتغيير ودوافع وأهداف الفاعلين، وما سيسفر عنه في الأمد المنظور. 6- قياسات التطابق المنوالية خارج التجربة التاريخية إنّ تاريخ المجتمع هو، أيضا، مجتمع التاريخ في امتداده عبر الزمن، ومن الخطأ فهم واقعه والحكم على صيرورته اعتمادا على نظريات تركّب على تلك الصيرورة عن طريق قياس التطابق، ومن الأمثلة على ذلك مسألة الشعبوية التي يوصف بها العمود الفقري للحركة الوطنية، وهو حزب الشعب الانتصار، وقائده مصالي الحاج الذي قضى قسما كبيرا من حياته في النضال والسجون، قبل أن يتجاوزه قطار الثورة الشعبية، التي ساهم في وضع الكثير من أهدافها ومصطلحاتها النضالية. يتردد وصف الشعبوية في أوساط المدرسة الفرنسية وتلاميذها من الجزائريين، قياسا على مسار الثورة الفرنسية التي كانت صراعا بين البورجوازية والأرستوقراطية في صورتها الملكية وحليفتها الكنيسة، وتمكنت من القضاء في المهد على الانتفاضة الشعبية فيما يعرف بكومون باريس، وقبلت مؤقتا عودة الملكية، وحتى النظام العسكري على يد من أصبح الإمبراطور نابليون وخلفائه في السلطة، من الهجمات على أوروبا إلى جنوب المتوسط وآسيا وإفريقيا، من مصر إلى غرب إفريقيا وشمالها، وخاصة الجزائر التي تلقوا فيها ثاني هزيمة بعد الفيتنام. ليس في النية التقليل من أهمية الثورة الفرنسية، وإعلانات النوايا التي واكبتها، لكن الجزائر ليست لا فرنسا ولا غيرها، إذ لم يكن في جزائر القرن الماضي بورجوازية أي طبقة وسطى عريقة، وخاصة من سكان المدن الحاضرين في السوق الاقتصادية، فكلمة بورجوازية مشتقة من ''Bourg'' أين يقع تبادل السلع في المدينة، ولم يكن الأعيان والنخبة المتعلمة سوى نسبة ضئيلة جدا، وهي إما مطاردة أو اندماجية لا تزيد على المطالبة بالمساواة مع الكولون وبقية المستوطنين ممن يعرف بالأرجل السوداء، في مجتمع قاوم إلى آخر رمق، للمحافظة على وجوده وهو بلا دولة. إنّ قياس التطابق من الأسباب التي تدفع قسما من النخب العالمة والسياسية إلى تسويق شعارات الثورة الفرنسية، مثل: لا ديمقراطية بلا جمهورية، وكأن في الجزائر من يطالب بملكية ومن سلالة النبلاء، ولا جمهورية بلا لائكية، وهي حتى في فرنسا لا تعني إلغاء المعطى الروحي، بل استبعاد نفوذ رجال الدين في الشأن السياسي، ومن مظاهر ذلك استبعاد الإنجيل من القسم الرئاسي في فرنسا عند بداية كل عهدة، عكس الولاياتالمتحدة، وهي دولة برداء لائكي ومجتمع متدين جدا، بل يقود حروبا دينية في كل القارات، وعلى الرغم من أنه لا وجود لكلمة ''اللّه'' في دستورها، منذ وضعه سنة 1971، فإن الشعار الأكثر تداولا هو ''نثق في اللّه''، المكتوب على عملتها الدولار منذ نهاية حرب الانفصال سنة 5681 بين الشمال والجنوب. المثال الأول: تمّ تعميم الشعبوية على كل مسيرة الجزائر بعد التحرير، والمتهم الأول هو حزب جبهة التحرير، وريث الخلاصة السياسية للحركة الوطنية، وتنسب إلى شعبويته كل سلبيات الأوضاع في الجزائر، منذ حوالي نصف قرن، سواء أكان في الحكم أو مجرّد واجهة له إنه، في رأيهم، في الحالتين إما الفاعل الأصلي وإما المحلّل أو المفتي فيما هو صحيح ومقبول، وما هو خطأ ومرفوض. أيا كان الموقع والموقف، فإن دعوة البعض لوأد الجبهة بصالحها وطالحها، الآن، ولأمد طويل، لن يرضي دعاته في الداخل، من الذين يرون في الجبهة حاجزا وسدا يمنع من التغيير والتجديد، بقدر ما يرضي أكثر أوساطا أخرى وراء البحر، التي ستعتبره ثأرا بأثر رجعي، لم تتمكن من تنفيذه خلال ثورة التحرير، وحتى بعدها بنصف قرن، تبدو جبهة التحرير من خارجها وكأنها عملاق بجسم هشّ مصاب بالأنيميا، ومنهك بصراعات على الحق والباطل، وتائه بلا بوصلة من داخله تهديه إلى النجاة من الأمواج الهائجة، التي تهدده بالغرق وخسارة ماضيه ومستقبله والغفلة عن استخلاص العبر من تجارب الماضي، من مؤتمر الصومام إلى مؤتمر طرابلس إلى مؤتمرات سقيفة بني ساعدة، بأسمائها المختلفة، والجزائر على وشك الاحتفاء بالذكرى الستين لثورة التحرير السنة القادمة 2014؟ يقدّم واقع الجبهة، كما يبدو من خلال أزماته المتكررة، وخاصة بعد 1979، صورة معبرة عن مصاعب التحول السياسي وتأثير قواعده الاجتماعية وبطانته الثقافية وطبيعة الصراعات حول المواقع وبين الجهات المتنافسة، وكأن لكل جهة قبلتها التي تصلّي إليها دون غيرها، وأحيانا تحت عناوين وشعارات توصف كلها بالوطنية الجبهوية، لكن من أهدافها إرضاء التوازنات بين زناتة وصنهاجة وبني هلال، وتوزيع الفوائد والنياشين والأوسمة على كل من يعلو صوته وقبضته أكثر من غيره، وأسوأ ما في الأمر مقولة: (أغيول إنغ) أفضل من حصانكم (أسرذون إنكن). لا نظلم الجبهة، وفيها نساء ورجال من الأوفياء الصادقين، إذا عرفنا أنها هي أيضا من ضحايا طبقة سياسية يعاني معظمها من اليتم المبكّر، في مجتمع يبحث عن مرجعية توافقية قابلة للإثراء والتجديد، وتتعايش فيها تيارات يكون الوصول إلى السلطة عندها وسيلة وليس غاية في حد ذاتها، أو مجرد مطية للمنافع والامتيازات فقط، وكلمة فقط لها معناها، بعد أن أسفرت الثلاثون سنة الأخيرة عن الاقتران المطّرد، في أغلب الأحيان، بين المناصب والمسؤوليات والمنافع، والمعارك الضارية التي دارت وتدور حول نتائج المؤتمر التاسع، مثل ما سبقه حول التموقع في لجنته المركزية ومكتبها السياسي وأمانتها العامة، والمشهد الدرامي المضحك المبكي لا يقلّل من أهمية الجبهة في الحاضر والمستقبل، وخاصة رصيدها القوي في الدفاع عن الحرية والحقوق المشروعة للشعوب في كل أنحاء العالم، ولعلها من آخر التنظيمات السياسية التي لم تتخلّ أبدا عن ذلك الموقف الفعلي والمعلن. لا يقلل من الملاحظات السابقة، بما فيها كلمة ''فقط''، لكن ينبغي أن نضيف إلى مصاعبها القديمة والمستجدة المسافة التي تزداد بعدا بين ثلاثة أجيال، من 1954 إلى 2012، وهي من الوجهة السوسيولوجية متساكنة ومتجاورة أكثر مما هي متفاعلة بالأخذ والعطاء المتبادل، وصعوبة التمرين على تعددية حزبية يقول البعض إنها قبلتها عن طيب خاطر، ويقول آخرون إنها فرضت عليها لتخرج من برنوسها عشرات الأحزاب بأسماء استنفدت كل حروب الأبجدية من الألف إلى الياء عدّة مرات، لكن الجبهة بقيت أوسعها من الناحية الهيكلية (الجهاز)، التي يرى البعض أنه أقرب إلى الوظيف العمومي وسلّمه البيروقراطي المعقّد، منها إلى النضال الحزبي، أي التبشير عن اقتناع بمبادئه ومنهجه في التطوير والتحول الديمقراطي. لا بد من التأكيد على أننا لا نعرف عن الجبهة أكثر من غيرنا من القادة والمناضلين، وينطبق على شخصي مقولة الشاعر: قل لمن يدعي في العلم ( بالجبهة) معرفة.. حفظت شيئا وغابت عنك أشياء أما المثال الثاني من سيل المطابقات ذات المنطلقات الإيديولوجية، وهي من أحدثها، الدراسة التي نشرتها إحدى الصحف بعنوان: ''الدولة-السوق-المجتمع''، التي تحذف الشعب من المعادلة الثلاثية السابقة، وكأن المجتمع يمكن أن يوجد مستقلا عن مهده الحقيقي، أي مكوناته من النساء والرجال من مختلف الطبقات. إن هذه النظرة والمفاهيم التي تسند إليها، ليست من مخلفات الحتمية الاجتماعية فحسب، بل إنها دعوة لتقليص دور ومكان الدولة ومؤسساتها وتحرير المجتمع من وضعية المواجهة العدائية بين ما يسمّيه الكاتب الثكنة والمجتمع منذ العهد العثماني إلى اليوم، وبالتالي فإن الجزائريين بقوا حوالي خمسة قرون تحت الحراسة المشددة للعسكريتارية في مختلف العهود، وفي هذه المواجهة الدائمة بين الجيش والمجتمع إيحاء بأن عدوان 1830 ليس أكثر من واحد من تلك العهود. يتبع..