ودّع عالم كرة القدم والأسرة الثوريةو الجزائر، هذا الأسبوع، هرما من أهرام الساحة الرياضية الوطنية، بل الإقليمية.. يكفيه فخرا، أنه يبقى صاحب النجمة ''اليتيمة'' التي توشّح صدر قمصان المنتخب الوطني لكرة القدم، وهي النجمة التي تعادل كأس أمم إفريقيا، التي أحرزها سنة 1990. التاريخ وحده يكتب لشيخ المدربين، عبد الحميد كرمالي، أنه كان الأول والأخير الذي توّج بلقب قاري مع المنتخب، وأنه صاحب ألقاب غالية، مع الأندية التي ''ترأس'' طواقمها الفنية.. عندما بدأ المرض يدنو من الشيخ عبد الحميد كرمالي، دنت منه ''الخبر'' قبل نحو سنتين، وحاولت معه رصد القليل من المحطات في مسيرته الكروية المميزة.. كان الشيخ يومها متعبا، وبالكاد كان يسمع أسئلتنا، فقد بلغ من العمر عتيا، غير أنه لم يبخل علينا بقليل من وقته. وكثيرا ما كان يخرج عن النص في تعليقات مفاجئة، يتوقف لبرهة من الزمن، ثم يطلق على محياه ابتسامات عريضة.. نتفاجأ حينها، لنسأله عن السبب، فيرد وهو يضحك: ''إليك هذه..''، فيروح يقص علينا نكتة أو حادثة وقعت له أو لزملائه من لاعبي فريق جبهة التحرير، أو حتى بعدها عندما كان يصنع أفراح عشاق الأندية التي درّبها، مثل وفاق سطيف ومولودية العاصمة. ''الخبر''، وهي تودّع ''الشيخ''، تنشر قليلا من مسار الرجل.. مسيرة مجاهد، لاعب، مدرب، إنسان، كان يفرح ويحزن.. يبكي ويضحك.. يغضب ويسامح.. ولد الشيخ عبد الحميد كرمالي بمدينة أقبو بولاية بجاية، في السابع والعشرين من شهر أفريل 1391، وكان والده عسكريا ضمن الجيش الفرنسي حينما رزق بعبد الحميد الولد البكر لأبيه، ثم رزق بعده بولدين وبنت، ولا يزال منهم سوى الشقيق الأصغر، لحمد لحيد، المدعو محمد، على قيد الحياة، وهو صورة طبق الأصل عن أخيه عبد الحميد، بعدما توفيت الأخت قبل عدة سنوات، والأخ الأوسط قبل حوالي ثلاث سنوات. تنحدر عائلة كرمالي من قرية أولاد علي بن ناصر ببلدية بني فودة، القريبة من مدينة العلمة، وكان الشيخ مولعا بكرة القدم، وهو القائل لنا ''لقد كنت ألعب الكرة لساعات طويلة بوسط مدينة سطيف، وبمحاذاة ثانوية القيرواني (ألبيرتيني سابقا).. وكان الشيخ علي بن عودة، المدعو ''لاياص''، يأتي دوما إلى ذلك المكان، من أجل اختيار البراعم الشابة لتدعيم فريق اتحاد سطيف، لكونه الفريق العربي الوحيد الذي كان موجودا في ذلك الحين. وقد شاهدني ألعب، فأمرني، بعد نهاية المباراة، أن أتبعه إلى مقر النادي، حيث منحني بذلة رياضية، وطلب مني الحضور لتدريبات الفريق في اليوم الموالي ضمن تشكيلة الأصاغر، حيث لعبت لموسمين كاملين، ثم رقّيت إلى صنف الأشبال ولعبت موسما واحدا، قبل أن أفاجأ، خلال موسمي الثاني، باستدعائي لمباراة فريق الأكابر، وكانت القائمة تعلّق بمقهى الفريق (الساركل).. اندهشت كثيرا لما وجدت نفسي ضمن قائمة تضم لاعبين كبار أمثال لعريبي، جليلي، بوخريصة، وزراري وغيرهم. هذا الأخير كان دوما يشجعني، ويقول لي ''ألعب ولا تخف فأنا وراءك''. وسطع نجم كرمالي بسرعة من خلال مشاركته في مباراة اتحاد سطيف ونجم قسنطينة، لحساب كأس الجزائر، وكان لا يزال في السنة الأولى لصنف الأواسط، وهناك شاهده أحد المدربين الفرنسيين، ونصحه بضرورة التوجه إلى فرنسا لخوض تجربة احترافية. وهنا يقول كرمالي ''غير أن والدي كان شديدا معي في جانب الدراسة، ورفض هذه الفكرة جملة وتفصيلا. وفعلا ركّزت على دراستي، وتحصلت على الشهادة النهائية في الدراسات''. وفاة الوالد وحاجة العائلة كانا وراء الرحلة نحو فرنسا ويواصل المرحوم حديثه، قبل وفاته بنحو سنتين، وكان في بداية مرضه: ''بعد وفاة والدي، وبقاء العائلة من دون مصدر رزق ثابت، خاصة أن منحة أبي لم تكن تصلنا، ورغم أن أعمامي كانوا يحاولون دوما إعانتنا، إلا أن الوضع لم يعد على ما كان عليه أيام الوالد، وبالتالي قررت التنقل إلى فرنسا. وقد سبقني إليها أحد الأصدقاء، المدعو بوذراع، فتوجهت إليه مباشرة بمدينة ميلوز الفرنسية، واستقبلني بحفاوة كبيرة، وكان يعمل بمصنع للأسلحة، وقد وعدني بأن يجد لي منصب عمل معه. ورغم أن الفرنسيين كانوا يتحاشون توظيف العرب في مثل هذه المصانع، ومع ذلك فقد نجح في مهمته، وأقنع المسؤول عن العمال بتوظيفي، غير أنني لم أكن ملتزما بأوقات العمل، وكنت شغوفا بلعب كرة القدم، فكنت أتأخر في كل مرة عن الالتحاق بعملي، وهو ما جعل المسؤول عن العمال يطردني، وقال لي ''أنت لا تصلح للعمل، اذهب للعب كرة القدم''. وقد كان مسيّرو فريق مولوز يتابعونني عن قرب، وجاءني أحد المناجرة اليهود المدعو ''ليفي''، وقال لي بالحرف الواحد ''أنا سأبيعك''، فقلت له ''كيف تبيعوني وأنا إنسان حر؟''، فشرح لي المسألة، وأخذني إلى مسؤولي فريق مولوز، وكان فريقا هاويا. ولعبنا ذات مرة كأس فرنسا ضد فريق ''كان'' المحترف، وذلك بمدينة ''سات''، التي كان يلعب لفريقها المرحوم مختار لعريبي، وهو الذي أكد لي، بعد نهاية المباراة، بأن مسؤولي فريق ''كان'' يريدون الاستفادة من خدماتي، وفعلا وقّعت لهذا الفريق وأصبحت لاعبا محترفا أملك سيارة وشقة ورصيدا في البنك. وفي هذا الفريق التقيت باللاعب الكبير مصطفى زيتوني، الذي أمضى في الموسم نفسه معي، قبل أن يتنقل هو إلى موناكو، وأتنقّل أنا إلى فريق ليون الكبير''. ليلة الهروب من ليون والالتحاق بفريق جبهة التحرير أرادت جبهة التحرير الوطني أن تشكّل منتخبا يمثل الجمهورية الجزائرية بحكومتها المؤقتة، وكانت الفكرة أن يتم اختيار عشرة لاعبين جزائريين هم الأحسن على مستوى البطولة الفرنسية، وفي هذا قال المرحوم كرمالي: ''كنا نحن أربعة من ولاية سطيف: لعريبي مختار، مخلوفي رشيد، رواي عمار والمتحدث. طبعا إلى جانب اللاعب الكبير مصطفى زيتوني، الحارس بوبكر، بخلوفي وغيرهم. وقد اتصل بنا السيد مختار لعريبي رفقة بومزرق، وشرحا لنا الوضع جيدا، وقررنا الفرار من فرقنا، على أن يدخل خمسة لاعبين من الحدود الفرنسية السويسرية، والخمسة الآخرون عبر الحدود الفرنسية الإيطالية. وكان فريقي ينوي التنقل إلى مدينة نيم للعب مباراة مهمة في إطار البطولة الفرنسية، حيث تظاهرت، خلال الليل، بالمرض وقمت بشراء بعض الأدوية، ولما علم المدرب جاء مسرعا وتحدث معي، فقلت له إنني أحس بحمى شديدة، ولا أقوى على السير، فضرب كفا بكف وتحسر، ثم قرر تعويضي بلاعب آخر. فالتقيت أنا ومخلوفي ولعريبي وبوشوك وبراهيمي، وتوجهنا مباشرة إلى الحدود السويسرية، وهناك لاحظنا أحد أعوان الجمارك، الذي يتابع كرة القدم جيدا، فقال لنا ''كرمالي، مخلوفي، براهيمي وبوشوك كل هذه الأسماء تجتمع في مكان واحد؟ أمر لا يصدق''.. وقد خفنا كثيرا من أن ينكشف أمرنا، لكن الأمور مرت بسلام. وبعدها ركبنا الطائرة مباشرة إلى إيطاليا، حيث علمنا بأن الجماعة الأولى قد سافرت نحو تونس، ثم لحقنا بهم هناك.. وقد نزل هروبنا كالصاعقة على السياسيين الفرنسيين والقائمين على كرة القدم، خاصة وأن زيتوني ومخلوفي كانا على وشك تمثيل المنتخب الفرنسي في نهائيات كأس العالم 85 بالسويد، ولم تجد وسائل الإعلام الفرنسية من سبيل لتشويه صورتنا غير نعتنا بالفلافة''. كرمالي وزملاؤه يبكون لسماع النشيد الوطني لأول مرة ويواصل المرحوم سرد مسيرته بالقول ''التقينا بتونس بالرئيس بورفيبة، وبعض الساسة الجزائريين، على غرار بن بلة وكريم بلقاسم وغيرهما، وقد لعبنا أول مباراة ضد المنتخب التونسي، واضطررنا إلى إضافة أحد اللاعبين الجزائريين المتواجدين بتونس، من أجل إكمال التعداد، وذلك قبل التحاق باقي اللاعبين.. حينما وقفنا للاستماع للنشيد الوطني، وكانت المرة الأولى التي يعزف فيها أمامنا، فلم نتمالك أنفسنا، وراح الجميع يبكي، وقد أدينا مباراة كبيرة أمام المنتخب التونسي، الذي سحقناه، على ما أذكر، بسبعة أهداف كاملة. ومن هناك انطلقت جولتنا نحو الكثير من الدول العربية والأوروبية الشرقية، فلعبنا ضد المغرب، ليبيا، العراق، تونس وغيرها من الدول الأخرى، إلا مصر التي خاف مسؤولوها من الإقصاء من المنافسات الدولية، بعد طلب الاتحاد الفرنسي معاقبة وإقصاء كل منتخب يقبل مواجهة فريقنا، ومع ذلك فقد لعبنا ضد منتخبات روسيا، تشيكوسلوفاكيا، يوغسلافيا ورومانيا، وكان مسؤولو هذه المنتخبات يقدّمون أسماء مستعارة للاعبيهم، حتى يتجنبوا إقصاءهم. وكانت أكبر مباراة نلعبها ضد المنتخب الروماني الكبير، فبعد هذه المباراة قال رئيس الاتحاد الروماني: ''أتوق كثيرا لمشاهدة مباراة المنتخب البرازيلي وفريق جبهة التحرير الجزائري، وستكون دون شك قمة كرة القدم العالمية''، فيما كتبت الصحافة الرومانية في اليوم الموالي ''ساعة ونصف من كرة القدم لم تكن كافية لإشباع عشاق الكرة بالفنيات الرائعة''. ''لعبت موسما واحدا لفريقين اثنين'' وكان الشيخ، ورغم ثقل السنين ووطأة المرض الذي بدأ ينخر جسده، يتوقف، من حين إلى آخر، ليسرد علينا بعض المواقف الطريفة ''أتذكر أنني حينما كنت ألعب بالجزائر، قبل سفري إلى فرنسا، قمت بإمضاء إجازتين: الأولى لفائدة اتحاد سطيف والثانية لصالح اتحاد الجزائر، وكنت ألعب أسبوعا بسطيف وآخر بالعاصمة، غير أنني لما حاولت اللعب مع فريق اتحاد سطيف ضد فريق النجم الرياضي السطايفي، التابع للمحتل الفرنسي، قاموا باحترازات ضدي، وقامت الفيدرالية الفرنسية بحرماني من اللعب لمدة موسمين، لكن العقوبة رفعت عني فيما بعد. وأتذكر كذلك أننا حينما وصلنا إلى رومانيا كنا نلبس بذلات بلون رمادي وعليها علم الجزائر، فسخر منا اللاعبون الرومانيون، وقالوا لنا ''أنتم تشبهون كثيرا فرقة موسيقية، وليس فريق كرة القدم''، غير أنهم اعتذروا لنا بعد نهاية المباراة، لما هزمناهم وشاهدوا الفنيات التي كنا نتمتع بها. كما أذكر أننا، خلال ركوبنا الطائرة بإيطاليا نحو تونس، سمعنا خبر إلقاء القبض على جماعة الخمسة، الذين كان معهم بن بلة، فقلت لرشيد مخلوفي، وكان الخوف يتملكني: ''سوف يتم القبض علينا فنحن خمسة، وأنا لا أخشى شيئا، بل أخاف عليك لأنك أنت تابع للجيش الفرنسي وهربت من أداء واجبك''، فالتفت إلي مخلوفي وانفجر في وجهي قائلا ''اسكت علينا يا وحد الهدّار سوف لن يحدث لنا أي شيء''، وهنا خاطبنا أحد المسافرين التونسيين وطمأننا بأنه لا شيء سيحدث لنا.. كما أننا عشنا الكثير من الحوادث المرعبة والمضحكة، في الوقت نفسه، خلال رحلاتنا الكثير عبر الطائرة، فتارة نضطر إلى رمي كل ما تحمله الطائرة من متاع حتى يخف وزنها ونحط بسلام، ومرة خرجت بنا عن المدرج وكان ذلك بمطار براغ، العاصمة التشيكوسلوفاكية، وحينها قررت أنا وزميلي زيتوني عدم ركوب الطائرة التي كانت ستقلّنا إلى المدينة التشيكية التي كانت ستحتضن المباراة، وفضّلنا التنقل عبر القطار نتيجة خوفنا الكبير. وتصوّر أننا وصلنا إلى تلك المدينة قبلهم، بعد أن عرفت رحلتهم الجوية بعض التأخير، ليتفاجأوا بنا ونحن نستقبلهم بالمطار''. قرّر العودة إلى الوطن بعد الاستقلال رغم إغراءات فريق ليون ''عدت إلى فريقي الأول بعد الاستقلال (اتحاد سطيف)، رغم اتصالات فريق ليون بي، وإغرائهم لي بالأموال، ولما لم يجد ذلك نفعا راسلوا الفيفا طالبين منها منعي من اللعب لأنهم يملكون عقدا لي، وهنا تدخل مسيرو فريق اتحاد سطيف وأرسلوا أحد الإداريين إلى فرنسا، حيث تمكّن من إقناعهم بضرورة تسريحي، لأن كرمالي اللاعب الشاب لم يعد كذلك، وأوهمهم بتراجع مستواي كثيرا، كما منحهم بعض المال مقابل ورقة تسريحي، وهنا لعبت مع الاتحاد وكانت أكبر المباريات التي خضناها ضد الوفاق، حيث كنت بمثابة الشبح الأسود لهم، وربحناهم في أول مواجهة. وقد حاول الوفاق خطفي من الاتحاد، ووقعت مشاكل كثيرة بسببي، حتى وأنا مدرب كان كل فريق يتمسك بخدماتي، ويؤكد مسؤولوه بأن الأحقية بي ترجع إلى فريقهم. وقد أنهيت آخر موسم لي كلاعب ومدرب مع الوفاق، خلال موسم 66/76، حينما تحصلت على كأس الجمهورية، وبعدها تفرغت للتدريب، وكانت أغلب مواسمي مع الوفاق، حيث كنت أتعاقب على العارضة الفنية له أنا والمرحوم لعريبي. كما دربت فرق شباب قسنطينة واتحاد الشاوية وترجي مستغانم واتحاد عنابة ومولودية الجزائر، والفريق الوطني للأواسط والأكابر. كما خضت تجارب بكل من تونس ودولة الإمارات العربية، وقد كانت مسيرتي حافلة بالألقاب والتتويجات''. مسيرة مميزة مع المولودية وذكرياتي لا تنسى مع أنصارها يؤكد الشيخ بأن مسيرته التدريبية مع ''العميد'' تبقى من أهم المحطات المنقوشة داخل ذاكرته: ''يمكن القول بأن مسيرتي مع فريق مولودية الجزائر تبقى مميزة، ولها مكان كبير في قلبي، حيث إنني أذكر أنني لما أمسكت بزمام هذا الفريق كان يزخر باللاعبين الكبار، سواء في السن أو من ناحية القيمة الفنية، وقد توجهت بالفريق إلى ألمانيا، من أجل إقامة معسكر تحضيري للموسم الرياضي 86/ 87 ، وحين وصولنا منحت اللاعبين برنامج التدريب، والذي ينص على إجراء ثلاث حصص في اليوم، وقد كان من بين اللاعبين مرزقان وبن شيخ وبوسري وقادري وغيرهم، فرفضوا البرنامج وكلفوا اللاعب بن شيخ للحديث معي وقال لي: ''اللاعبون يرفضون هذا البرنامج، وعليك بالتخفيض من ساعات التدريب''، وقد رفضت ذلك وتكلمت مع الرئيس حواش، الذي أكد لي أنه يقف إلى جانبي، فقررت، خلال اليوم الثاني وبعد إصرارهم على المقاطعة، العودة إلى الجزائر، وكان مبرمجا أننا عندما ننهي التربص، ونمر بالعاصمة الفرنسية خلال رحلة العودة لإجراء مباراة ودية ضد باريس سان جرمان، على أن تعود مداخيل المباراة للاعبي المولودية، وخلال تواجدنا بباريس كان اللاعبون فرحون جدا، وينتظرون لعب المباراة للحصول على مصروف كبير ومهم، فقلت لهم في نفسي ''واللّه لن تطأ أرجلكم أرضية الميدان مادمت مدربا للفريق''، وقد أبلغتهم بعدها بالدخول إلى الجزائر وإلغاء المباراة بسبب إلغاء التربص، لأتوجه مباشرة بعد وصولي العاصمة إلى مقر سوناطراك حيث تحدثت مع جواد، وأبلغته نيتي في تطهير الفريق وتسريح كل اللاعبين الذين وضعتهم نصب أعيني. وقد منحي السيد جواد، وحتى وزير الطاقة آنذاك، كل الصلاحيات، فقمت بحذف كل الأسماء الكبيرة وتعويضها بالشبان، على غرار بوكراع وبلهوشات ومرافة وغيرهم، ذلك وسط تنديد كبير وتهديد من الأنصار، الذين لم يتوقفوا عن شتمي وإهانتي قبل بداية الموسم، وأخذت مجموعة الشبان نحو مدينة سرايدي بعنابة للتربص، ولعبنا مباراة ضد ترجي فالمة، فانبهرت بمستواهم، ولما عدنا كانت المواجهة الأولى الرسمية لنا ضد مولودية وهران، بنجومه المعروفين آنذاك، وقلت للاعبين الشبان، قبل دخولهم الميدان: ''اليوم لا أعطيكم لا خطة ولا أي شيء، ألعبوا بالطريقة نفسها التي لعبتم بها ضد ترجي فالمة، وكأنكم في مباراة ودية وأنا أتحمل الخسارة، مهما كانت نتيجتها.. هناك 80 ألف مناصر جاءوا اليوم لشتمي، فعليكم الرد فوق أرضية الميدان''. وبعد ربع ساعة من السب والشتم تحوّل كل الملعب إلى المناداة باسمي وبحياتي، وحققنا انتصارا بثلاثية نظيفة على مولودية وهران، واحتللنا المرتبة الثانية خلال ذلك الموسم، ثم حصلنا على لقب البطولة في الموسم الموالي.. كما أذكر أنه في إحدى المرات كان علي بن شيخ ضمن كرسي الاحتياط، وكان كل الجمهور العاصمي ينادي باسمه، وبدأ اللاعب يتحرك في مكانه ظنا منه بأنني سأقحمه، فقلت، في نفسي، ''والله لو صرخت كل الجزائر فلن يكون إلا ما في رأسي''، وقد أنهينا المباراة بالتعادل، وحينما هممت بالخروج من الملعب وجدت المئات من أنصار المولودية في انتظاري فحاصروني، فقررت أن أستعمل الحيلة معهم، فقلت لهم ''ماذا تريدون؟''، قالوا ''نريد الكلام معك حول التشكيلة فطلبت منهم الصعود إلى المدرجات''، وقلت لهم تكلموا فكانت كل مطالبهم على ضرورة إشراك علي بن شيخ، فقلت لهم ''سيكون ذلك''، وهنا تفرق الجميع بسلام. بعدها توجهت إلى محافظ الشرطة، وطلبت الحماية، وقد منحته أسماء لبعض المشاغبين الذين تحوّلوا خلال الغد إلى حراس لي، بعد أن تم توقيفهم خلال الليل وإخراجهم من بيوتهم. والحمد للّه أن كل أنصار المولودية مازالوا يحبونني إلى اليوم''. التتويجات مع المنتخبات الوطنية تبقى مميزة وفريدة من نوعها تمكّن الشيخ كرمالي، خلال مسيرته، من الفوز مع المنتخب الوطني للأواسط بالبطولة الإفريقية والكأس الأفروآسيوية، وكان ذلك التتويج الأول والأخير للجزائر. والشيء نفسه مع منتخب الأكابر: ''أذكر أن تتويجنا بالكأس الإفريقية سنة 90 كانت الكأس الأحسن في تاريخ هذه المنافسة، فلأول مرة يفوز منتخب بكل شيء: أحسن دفاع، أحسن هجوم، أحسن هداف وأحسن لاعب وغيرها، وقد كنت، قبل بداية أول مباراة ضد نيجيريا، خائفا جدا من رد فعل أنصار المولودية، بما أنني تركت فريقهم وأشرفت على المنتخب الوطني، فلما كنت أهمّ بالدخول إلى أرضية الميدان قلت لحارس المتاع، وهو الوحيد الذي بقي إلى جانبي، بعد أن فضّل مساعداي الابتعاد عني خوفا من السب والشتم: ''أعلم جيدا أننا لو دخلنا وصاح جمهور المولودية بحياتي وحياة اللاعبين فسوف نحصل على هذه الكأس، وإذا حدث العكس فسوف نخسر المباراة، وسوف أستقيل بعدها مباشرة''، وفعلا لما شاهدني جمهور المولودية، نهض الجميع وصاحوا ''كرمالي.. كرمالي''، فالتفت إلى حارس المتاع وقلت له ''مبروك علينا الكأس''. كانت هذه بعض المحطات في مسيرة الشيخ الحافلة بالانتصارات والتتويجات، والتي لم تخل كذلك من بعض المحطات المؤسفة والذكريات السيئة، حيث يذكر خيبة الأمل بكأس إفريقيا بزينغشور في السنيغال، وكذا حين تأهيله للمنتخب الوطني في منافسة كأس إفريقيا، بكل من غانا وتونس رفقة حميد زوبا، حينما أشرفا على العارضة الفنية للمنتخب لأشهر فقط، ولم يتم حتى دعوتهما كضيوف شرف لمتابعة الدورتين. كما تأسّف كرمالي لسقوط فريقه، وفاق سطيف، إلى القسم الثاني، ومع ذلك كان المرحوم يعتبر نفسه من المدربين المحظوظين جيدا، لما حققه من إنجازات وانتصارات للكرة الجزائرية، سواء كلاعب أو كمدرب. وكان المرحوم قد أبلغنا أنه ندم على شيء وحيد في حياته، وهو عدم إتقان اللغة العربية، حتى يتمكن من تنشيط أستديوهات التحاليل الرياضية في القنوات العربية الكبيرة، ومع ذلك قال لنا ''أنا فخور بنفسي، لأنني مجاهد ومتقاعد لدى شركة سوناطراك، التي منحتني صفة مدير مركزي''. هكذا كانت سيرة شيخ المدربين من المهد إلى اللحد، ليفارقنا إلى الأبد، حاملا معه جزءا كبيرا ومهما من تاريخ كرة القدم الجزائرية. ماذا قال الشيخ لشريف وجاني في المباراة النهائية 1990؟ كان الشيخ قلقا قبل المباراة النهائية لكأس أمم إفريقيا سنة 90، أمام منتخب نيجيريا، وكان يبحث بين تشكيلته الأساسية عن العصفور النادر، الذي يمكنه قلب الموازين، فجأة توجه نحو قلب الهجوم شريف وجاني، وانعزل به في إحدى زوايا غرف تغيير الملابس، ثم قال له ''بالنسبة لي أنت أحسن مهاجم في العالم، وأمامك فرصة لتبرهن لكل هذه الجماهير عن إمكانياتك. وأنا أدرك أنك من سيسجل اليوم، فلا تخيب ظني''. وقد أكد حينها العديد من لاعبي المنتخب أنهم لم يعرفوا وجاني داخل الميدان، نظرا للإرادة والاندفاع الكبيرين الذي لعب بهما، وتمكن من إحراز الهدف الوحيد للمباراة. حنكته في التخلص من اللاعبين كبار السن لم يجد الشيخ من حيلة يستعملها، أمام إصرار أحد المدافعين في مواصلة مشواره الكروي رغم كبر سنه بتشكيلة الوفاق لبداية الثمانينيات، وخوف الشيخ من انقلاب بعض اللاعبين ضده، في حال اتخاذه قرار إبعاده، فقام، في إحدى المباريات بإشراك ذلك اللاعب كبديل لمدة خمسة دقائق، ثم قام بتغييره، وهو الأمر الذي أغضب كثيرا اللاعب، وجعله يرمي بالقميص في الملعب ويقسم بأغلظ الإيمان بالذهاب من دون رجعة، وهي الخطة التي نجح فيها الشيخ، وجعلته يسيطر على زمام الأمور. قصة ال200 فرنك فرنسي يحكي الشيخ، رحمه اللّه، خلال وقفاته معنا في الحوار المذكور عن قصة تعاقده مع أولمبيك ليون سنة 75، وحينها منحوه شقة وسيارة ومبلغا كبيرا من المال، حيث قام بإرسال حوالة مالية إلى والدته بسطيف بقيمة 200 فرنك فرنسي، أي ما يعادل، في الوقت الحالي، حوالي 200 مليون سنتيم، فاستغرب الفرنسيون العاملون بمصالح البريد من لإمكانية امتلاك جزائري، في ذلك الوقت، لمثل تلك الأموال وتحويل جزء منها للعائلة بالجزائر، ما جعلهم يخبرون الأمن، الذي قام باستدعاء والدة كرمالي وأعمامه، من أجل استجوابهم، وهو ما زرع الخوف والشك في نفس الوالدة، التي كانت تقول لأشقائه وأعمامه: ''أكيد أن عبد الحميد هجم على بنك في فرنسا واستولى على أمواله''، غير أن إدارة أولمبيك ليون أرسلت برقية للأمن الفرنسي، تؤكد من خلالها بأنها من منحت الأموال لعبد الحميد، مقابل إمضائه لإجازة محترفة مع الفريق. قصة مفاتيح الشقق للاعبين لم يجد الشيخ كرمالي، خلال إشرافه على الطاقم الفني للوفاق موسم 85 ، من شيء يواجه به غضب لاعبيه الذين طالبوا، في ذلك الحين، بمنحهم سكنات مقابل لعب إحدى المباريات المرتبطة بالتنافس على لقب البطولة، غير جمعهم في مكتب النادي، ووضع حزمة من المفاتيح في الدرج، وخلال اجتماعه بهم قام بتحريك الدرج حتى يسمع رنين المفاتيح، ثم قال لهم ''لقد انتهى أمر الشقق والمفاتيح بحوزتي، وما عليكم غير ربح المباراة والحصول على البطولة، وبعدها كل لاعب يأخذ مفتاح شقته''. وهكذا تمكن كرمالي من امتصاص غضب لاعبيه وشحنهم للمباراة، ومع ذلك فلم يتمكن الوفاق من الفوز بلقب البطولة، واكتفى بالمرتبة الثانية وراء شبيبة القبائل.
لما شاهدني جمهور المولودية، نهض الجميع وصاحوا ''كرمالي.. كرمالي''، فالتفت إلى حارس المتاع وقلت له ''مبروك علينا الكأس''.