بدت الحركة الإسلامية، قبل عشريتين، قاب قوسين أو أدنى من إحداث تغيير حقيقي شامل في كثير من البلاد العربية والإسلامية، لكنها عرفت، قبل بضع سنوات، تراجعا واضح المظاهر والمؤشرات في مسيرتها السياسية، ثم جاءت موجة ثورات الربيع العربي، فحملت الإسلاميين مجددا إلى قلب الحراك السياسي في العالم العربي. وبات اليوم واضحا أنها تعيش، كأي ظاهرة سياسية واجتماعية، حالة من ''التحوّل'' العميق في فكرها وخطابها ورؤاها ومنطلقاتها. يكاد يكون من المسلّم اعتبار الحركة الإسلامية، قبل أن تكون أحزابا وتنظيمات، جزءا من ظاهرة اجتماعية - سياسية أشمل وأوسع، هي ظاهرة الصحوة الإسلامية، التي تنتمي بدورها إلى تيار أكبر هو تيار الدعوة الإسلامية، وبطبيعتها لا يمكن لهذا النوع من الحركات إلا أن تكون ذات طبيعة ثورية تغييرية، هدفها الأصيل هو إحداث انقلاب عميق في المجتمع وتحوّلات جذرية في الدولة، وينبغي أن نتفق كذلك أن الحركات التغييرية، بغضّ النظر عن الفكرة ''الأيديولوجيا'' التي تعمل لأجلها، تخضع للقوانين الاجتماعية نفسها. تلك القوانين والقواعد التي تحكم الحراك داخل المجتمعات والتدافع بين الناس، وترسم مسارات التاريخ وتحدد نتائجه، وهي قواعد وقوانين لا ترقى لدقة وإطلاقية القواعد التي تحكم العالم المادي الطبيعي. لكن تراكم الخبرات والتجارب، وقدرة العقل الإنساني على الملاحظة والتحليل والاستنباط، أدت إلى بلورة مجموعة من القوانين يكاد الاتفاق ينعقد على صلاحيتها لفهم مسار وصيرورة الحركات والقوى الاجتماعية المختلفة. والإسلاميون في الجزائر، ومع التسليم بالخصوصية القُطرية، فإنهم يمثّلون جزءا من الحالة العامة للحركة الإسلامية في العالم، وهم بذلك في حالة تواصل دائم مع ما تعيشه الحركات الأخرى من تجارب وتحولات. وقد عاشت الجزائر عشرية كاملة على وقع الصراع بين النظام والإسلاميين، ممثلين في جبهة الإنقاذ ثم الجماعات المسلحة المختلفة. وكانت الحركة الإسلامية، في عمومها، هي الرقم الأول في اللعبة السياسية القائمة حينها، لكن فشل منهج المغالبة الذي تبنّته جبهة الإنقاذ، ثم سقوط الخيار المسلح في دائرة الإرهاب، وما تبع ذلك من وصول عبد العزيز بوتفليقة للسلطة، والتحولات التي طرأت على طبيعة العلاقات بين مراكز القوى الأساسية في النظام والمعطيات الداخلية والخارجية الجديدة، كلها عوامل ساهمت في زحزحة دور الحركة الإسلامية في الحراك السياسي الوطني إلى الصف الثاني والثالث، وأدنى من ذلك، أحيانا، كما نراه في نتائج انتخابات 2102 التشريعية والمحلية. ولم يكن انحسار الشعبية وتراجع الأداء هما كل ما أصاب هذه الحركة من وهن وضعف، فقد ترافق ذلك مع ضمور في الفكر والخطاب، وتدنٍ في الحركية والالتزام، ليصل الأمر في النهاية، إلى صراعات تولدت عنها انشقاقات وانقسامات، مع كل ما يصاحب ذلك من أحقاد وعداوات وفضائح. لكن محاولة فهم الإشكالات العميقة، النظرية والعملية، التي أفرزتها مسيرة العمل الإسلامي في الجزائر تتطلب شجاعة طرح أسئلة صريحة حول الأفكار والمناهج والخيارات، وتجاوز الحديث عن الشعارات والمبادئ، أو الاكتفاء بالتبسيط والتجزيء، كما تقضي عدم قبول الإجابات المبسطة والحلول السهلة، فكما قال مفكر أمريكي شهير: ''إن قبولنا بالإجابات السهلة يحول بيننا وبين إدراك عمق المشكلات التي نعيشها''. إن إسلاميي الجزائر، بكل مشاربهم وتوجهاتهم، يقفون اليوم على مفترق طرق حقيقي، فإما أن يتحلوا بالشجاعة الكافية لمراجعة خياراتهم وتقييم تجربتهم السابقة، مع البحث عن آفاق جديدة، وإما الاستمرار في اجترار الماضي ومطاردة الأوهام، لأنهم، في كل الأحوال، سيظلون طرفا أساسيا في رسم الخريطة السياسية للجزائر لسنوات عديدة قادمة. ومناقشة العوامل المتحكمة في التحول الذي تعيشه الحركة الإسلامية في بلدنا، بشكل عميق وبأكبر قدر ممكن من الصراحة، تمثل رهانا على المستوى الفكري والسياسي أكبر وأخطر من أن يتحمّل مجاملة أو تساهلا، فهذه ''الظاهرة'' تخطّى مصيرها قرار وإرادة قادتها ومناضليها والسائرين في ركابها، منذ أن تحوّلت إلى راكب أساسي لموجة ثورات الربيع العربي، فرأى فيها كثيرون ''أمل الأمة'' في تحقيق الإصلاح والتغيير، والخروج من نفق الأزمة المزمنة ودائرة التخلف والتبعية والاستبداد، فيما آمن غيرهم بأنها ''حصان طروادة'' لعودة الاستعمار الجديد، وتنفيذ مخططات الغرب وإسرائيل في تجزئة وتحطيم وحدة وموارد دول المنطقة. إن الهدف الأول لهذه المساهمة هو تكوين رؤية سليمة موضوعية ومتكاملة عن حاضر حال الإسلاميين في الجزائر، مع محاولة فهم كيف وصلوا إلى هذه الحال ولماذا؟ ثم محاولة استشراف المستقبل الذي ينتظرهم، عبر استكشاف أسس الفكر والمنهج وأساليب التنظيم والتكوين، مرورا بأزمات الزعامة وإحباطات القواعد، وصولا إلى ظاهرة التشظي والانقسام، مع النظر في دور العوامل الخارجية في صنع هذا المآل، بدءا بالعلاقة مع السلطة إلى التحولات الإقليمية والدولية، تحوّلات السياسة وفتوحات التكنولوجيا، وكل ما تحمله العولمة من فرص وإكراهات.