تقدم الخبر، في صفحة تيارات مساهمة للدكتور محمد العربي ولد خليفة، رئيس المجلس الشعبي الوطني، تتعلّق بالتحولات الاجتماعية والسياسية المتسارعة في الجزائر والمنطقة الأفرو عربيّة. 6 - ضرورة التحوّل: قصور الالتجاء إلى مدخل التطابق بين كل المجتمعات @ يحمل المنتوج الثقافي، سواء كان معنويا أو ماديا، بصمات الحضارة التي أنتجته والإيديولوجية الغالبة فيها، غير أن الحضارة هي أيضا نتيجة تراكم المعرفة والخبرة التي ساهمت فيها وطوّرتها شعوب وأمم عبر الاستمرارية التاريخية الضاربة في أعماق الزمن، فمن العبث كما يقال إعادة اختراع الدرّاجة، ومن الادّعاء ومواساة الذات، أيضا، الزعم بأنه لولا عباس بن فرناس وابن الهيثم وآخرين لبقى العالم كله كما كان عليه قبل مئات القرون، فالاستمرارية التاريخية تعني إضافات متتالية ومدى قدرة الدول ونخبها على تطويرها وتثمينها. إن المناهج والنظريات ليست قوالب ومعادلات رياضية مجرّدة يمكن تطبيقها في أي زمان ومكان، وعلى كل الكيانات التي تحمل اسم دولة وكل البنيات المجتمعية، مهما كانت مسيرتها التاريخية وخصائص موروثها الثقافي، فلكل مجتمع أنماط التحليل (Modèles d'analyse) تسمح بالتفسير والاستنتاج، ولا تصلح لغيره من المجتمعات. ونحن في الحقيقة أمام معضلة معرفية، إذ إن قسما كبيرا من نخبنا تكوّن في معاهد وجامعات خارج الأوطان، وبعض تلك النخب نقل ما عرف كما هو في البلد الذي تعلّم فيه، ولا يرى بعضهم في مجتمعه الأصلي ونظامه ما يقبل التطوير على الأقل بالسرعة المطلوبة. هذا النمط من النخب يعاني مثل مقابله من النخب التأصيلية التي ترى أن تغيير الحاضر إلى الأفضل لا يتحقّق إلا بإعادة المثل الأعلى المجسّد في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وصحبه الأبرار. يعاني هذان النمطان من النخب من غربتين: الأولى عن عالم المقدمة الذي يقود الحداثة، والثانية ابتعاد المجتمعات وأنظمتها عن ذالك المثال المجسد، ولعل هذه المعضلة من عوامل توالي الأزمات في كثير من بلدان المنطقة. إن الهدف من التوضيحات السابقة هو التنبيه إلى أن الجزائر، مجتمعا ودولة، ليست استثناء في عالم اليوم، وليست كذلك عجينة أو هيولى قابلة للتقولب الذي يُفرض عليها من تيار واحد في الداخل، أو من قوى خارجية بغرض الاحتواء وتحقيق مصالح أحادية الجانب، مقابل قواعد عسكرية وحماية من قوة دولية لأسرة حاكمة أو نظام سياسي يؤجّر بلاده خوفا من شعبه. مرت الجزائر بعزلة مفروضة وحصار سياسي واقتصادي أثناء محنة التسعينيات دون أن تتنازل عن سيادتها الوطنية والحرية النسبية لقرارها السياسي. والمدخل التجميلي للوصاية والتدخل هو اليوم تدويل الصراع برخص جاهزة من الأممالمتحدة ومنظماتها المعنية، إنّ حرية القرار في شؤون السياسة والاقتصاد والتجارة.. مسألة وثيقة بمدى قوة ونفوذ الدولة، ومدى أهمية علاقاتها مع المحيط الجهوي والدولي، وبالأخص مدى استقرار مجتمعها وتجانسه. ونعني بالتجانس عناية الدولة بالتوازن وتوسيع قاعدة الطبقة الوسطى وإعطاء المواطنة حقوقها لتنهض إراديا بواجباتها، وليس محو الخصوصيات المحلية التي تلتقي في مواطنة بمشتركات جامعة تتغذّى من تلك الخصوصيات وتغذيها في الفرد والجماعة. من المغامرة اعتقاد البعض أنّ استمرار الصراع الدموي في جزائر نهاية القرن الماضي سيؤدي إلى انتصار حاسم، ولا يصل إلى تدخل من أطراف كانت في الانتظار بتلهف، وما حدث في العراق وليبيا، ويحدث الآن في سوريا، دليل على وجود ذلك الخطر الداهم. ولم نتردد أبدا في اعتبار حلّ المصالحة الوطنية سفينة النجاة، التي يمكن أن تحمل من كلّ زوجين اثنين، كما ورد في دراستنا “الأزمة المفروضة على الجزائر 1998”، وواجهنا من الطرفين السؤال التالي: أنت مع من؟ والجواب ما أسفر عنه الاستفتاء الشعبي بتاريخ سبتمبر 2005. يجد المتأمل في الخط البياني لتاريخ مجتمعنا، في مختلف مراحله المدوّنة، أن هناك ثلاثة مطالب مندمجة، هي الحرية والعدالة والتقدّم، حرّكت مختلف التفاعلات التي توجّه فيه الحركة والسكون والهدوء. 7- قياسات التطابق المنوالية خارج التجربة التاريخية إنّ تاريخ المجتمع هو أيضا مجتمع التاريخ في امتداده عبر الزمن، ومن الخطأ فهم واقعه والحكم على صيرورته اعتمادا على نظريات تركّب على تلك الصيرورة عن طريق قياس التطابق، ومن الأمثلة على ذلك مسألة الشعبوية التي يوصف بها العمود الفقري للحركة الوطنية، وهو حزب الشعب الانتصار وقائده مصالي الحاج الذي قضى قسما كبيرا من حياته في النضال والسجون، قبل أن يتجاوزه قطار الثورة الشعبية التي ساهم في وضع الكثير من أهدافها ومصطلحاتها النضالية. يتردد وصف الشعبوية في أوساط المدرسة الفرنسية وتلاميذها من الجزائريين قياسا على مسار الثورة الفرنسية.. ليس في النية التقليل من أهمية الثورة الفرنسية، ولكن الجزائر ليست لا فرنسا ولا غيرها، إذ لم يكن في جزائر القرن الماضي بورجوازية أي طبقة وسطى عريقة، وخاصة من سكان المدن الحاضرين في السوق الاقتصادية. إنّ قياس التطابق من الأسباب التي تدفع قسما من النخب العالمة والسياسية إلى تسويق شعارات الثورة الفرنسية، مثل: لا ديمقراطية بلا جمهورية، وكأن في الجزائر من يطالب بملكية ومن سلالة النبلاء، ولا جمهورية بلا لائكية، وهي حتى في فرنسا لا تعني إلغاء المعطى الروحي، بل استبعاد نفوذ رجال الدين في الشأن السياسي. المثال الأول: تمّ تعميم الشعبوية على كل مسيرة الجزائر بعد التحرير، والمتهم الأول هو حزب جبهة التحرير، وريث الخلاصة السياسية للحركة الوطنية، وتنسب إلى شعبويته كل سلبيات الأوضاع في الجزائر، منذ حوالي نصف قرن، سواء أكان في الحكم أو مجرّد واجهة له. إنه، في رأيهم، في الحالتين، إما الفاعل الأصلي وإما المحلّل أو المفتي فيما هو صحيح ومقبول، وما هو خطأ ومرفوض. أيا كان الموقع والموقف فإن دعوة البعض لوأد الجبهة، بصالحها وطالحها، لن ترضي دعاته في الداخل من الذين يرون في الجبهة حاجزا وسدا يمنع من التغيير والتجديد، بقدر ما يرضي أكثر أوساطا أخرى وراء البحر، التي ستعتبره ثأرا بأثر رجعي، لم تتمكن من تنفيذه خلال ثورة التحرير وحتى بعدها بنصف قرن. تبدو جبهة التحرير من خارجها وكأنها عملاق بجسم هشّ مصاب بالأنيميا، ومنهك بصراعات على الحق والباطل، وتائه بلا بوصلة من داخله تهديه إلى النجاة من الأمواج الهائجة. ويقدّم واقع الجبهة، كما يبدو، من خلال أزماته المتكررة، وخاصة بعد 1979، صورة معبّرة عن مصاعب التحول السياسي وتأثير قواعده الاجتماعية وبطانته الثقافية وطبيعة الصراعات حول المواقع وبين الجهات المتنافسة، وكأن لكل جهة قبلتها التي تصلّي إليها دون غيرها، وأحيانا تحت عناوين وشعارات توصف كلها بالوطنية الجبهوية، ولكن من أهدافها إرضاء التوازنات بين زناتة وصنهاجة وبني هلال، وتوزيع الفوائد والنياشين والأوسمة على كل من يعلو صوته وقبضته أكثر من غيره، وأسوأ ما في الأمر مقولة: حمارنا (أغيول إنغ) أفضل من حصانكم (أسرذون إنون). لا نظلم الجبهة، وفيها نساء ورجال من الأوفياء الصادقين، إذا عرفنا أنها هي أيضا من ضحايا طبقة سياسية يعاني معظمها من اليتم المبكّر في مجتمع يبحث عن مرجعية توافقية قابلة للإثراء والتجديد وتتعايش فيها تيارات يكون الوصول إلى السلطة عندها وسيلة وليس غاية في حد ذاتها، أو مجرد مطية للمنافع والامتيازات فقط وكلمة فقط لها، معناها بعد أن أسفرت الثلاثون سنة الأخيرة عن الاقتران المطّرد، في أغلب الأحيان، بين المناصب والمسؤوليات والمنافع والمعارك الضارية التي دارت وتدور حول نتائج المؤتمر التاسع، مثل ما سبقه حول التموقع في لجنته المركزية ومكتبها السياسي وأمانتها العامة والمشهد الدرامي المضحك المبكي لا يقلّل من أهمية الجبهة في الحاضر والمستقبل، وخاصة رصيدها القوي في الدفاع عن الحرية والحقوق المشروعة للشعوب في كل أنحاء العالم، ولعلها من آخر التنظيمات السياسية التي لم تتخلّ أبدا عن ذلك الموقف الفعلي والمعلن. لا يقلّل من الملاحظات السابقة، بما فيها كلمة “فقط”، ولكن ينبغي أن نضيف إلى مصاعبها القديمة والمستجدة المسافة التي تزداد بعدا بين ثلاثة أجيال من 1954 إلى 2012، وهي من الجانب العمراني متساكنة ومتجاورة أكثر مما هي متفاعلة بالأخذ والعطاء المتبادل، وصعوبة التمرين على تعددية حزبية يقول البعض إنها قبلتها عن طيب خاطر، ويقول آخرون إنها فرضت عليها لتخرج من برنوسها عشرات الأحزاب بأسماء استنفدت كل حروب الأبجدية، من الألف إلى الياء، عدّة مرات، ولكن الجبهة بقيت أوسعها من الناحية الهيكلية (الجهاز) التي يرى البعض أنه أقرب إلى الوظيف العمومي وسلّمه البيروقراطي المعقّد، منها إلى النضال الحزبي أي التبشير عن اقتناع بمبادئه ومنهجه في التطوير والتحول الديمقراطي. أما المثال الثاني هي الدراسة التي نشرتها إحدى الصحف بعنوان: “الدولة-السوق-المجتمع”، التي تحذف الشعب من المعادلة الثلاثية السابقة، وكأن المجتمع يمكن أن يوجد مستقلا عن مهده الحقيقي، أي مكوناته من النساء والرجال من مختلف الطبقات. إن هذه النظرة والمفاهيم التي تسند إليها، ليست من مخلّفات الحتمية الاجتماعية فحسب، إنها دعوة لتقليص دور ومكان الدولة. 8- مشروع المجتمع في بيان الثورة.. التنويه: ماذا بعد التنويه؟ ليست الأمثلة السابقة سوى نماذج قليلة من المقاربات المبنية على التطابق المستمدّ من الفرضيات، والنتائج التي انتهت إليها المدرسة الكولونيالية الفرنسية بوجه خاص، وبنى عليها الكثير من المختصين في علوم الإنسان والمجتمع عندنا. ولذلك فإن من أولويات البناء الوطني الاهتمام بالبحث في علاقة الدولة بالمجتمع من أقدم العصور إلى اليوم، والمحرّك الحقيقي لتلك العلاقة، وهو الشعب ومطلبه الثلاثي الأركان المتمثل في الحرية والعدالة بأوسع معانيها والتقدم والارتقاء الذي حرمت منه الأغلبية زمنا طويلا. لقد بقيت تلك العلاقة مقتصرة على عموميات تشوبها مسحة من الرومانسية، على الرغم من ترسانة القوانين المستمدة من الدستور بمختلف تعديلاته المتوالية، وما تبعها من قوانين تنظيمية ولوائح توضيحية حافظت على الجوهر المنصوص عليه في ديباجة القانون الأساسي بإضافة البعد الأمازيغي. يتواصل في بلادنا الجدل حول مشروع المجتمع ويتساءل البعض عن أي مشروع؟ ولأي مجتمع؟ وكأن كل التنظيمات والتقنينات التي شهدتها الجزائر، ما بين 1954-2012، حدثت في فراغ أو مجرّد استنساخ من الغير وخارج التجربة التاريخية التي تمتد إلى عدة قرون قبل الاحتلال وأثناءه، وبعد خمسين سنة من الميلاد الجديد للدولة الجزائرية. لقد أوصل وهم الفراغ واعتقاد البعض بضرورة البداية من نقطة الصفر، بترقيم الجمهوريات على نمط ما حصل وراء البحر، أوصل فئات من النخبة إلى تقطيع مجتمعنا إلى فصائل متناحرة، وأدخلها في صراع مأساوي في حقبة من تاريخنا المعاصر كلفت الجزائر خسائر فادحة أفقدتها العديد من نخبها المبدعة والسياسية، وسمحت لأوساط كانت تنتظر الفرصة للتذكير بالأحكام العنصرية لأنطوان بورو، أستاذ الطب النفسي بجامعة الجزائر سابقا، وتلاميذه عن العنف الجبلّي عند الأهالي، وفنّد هذه المزاعم الطبيب المختص في الأمراض العقلية، فرانتز فانون، أحد المناضلين العلماء الذين تبنّوا ثورة التحرير وتبنّتهم، وهو الذي وضع نظرية العنف الثوري من أجل الحرية والكرامة، مقابل الرعب والعنف الكولونيالي للإخضاع والاستعباد والإذلال الكولونيالي، والثاني عنف مشروع ومطلوب.
- بيان الثورة ومشروع المجتمع لقد وضع بيان الأول من نوفمبر 1954 أُسس مشروع المجتمع والدولة الجزائرية الحديثة، ومن حق الأحزاب والتيارات السياسية في المجتمع المدني التي تدور في فلكها أن تقترح برامج تطبيقية ضمن الإطار العام لذلك البيان المؤسس، لتقديم حلول لقضايا الحاضر والتطورات المحتملة في المستقبل. يثبت ذلك البيان بعد 58 عاما (1954-2012)، وتوالي ثلاثة أجيال، أنه معاصر ومستقبلي، ولا يقبل الحذف أو الإضافة، وعلى درجة عالية من التوازن والفهم العميق لما كان عليه الشعب الجزائري، وما ينبغي أن يكون عليه. في بيان الأول من نوفمبر إعلان مبكّر وطوعي عن الحقوق الثابتة للإنسان والمواطن، واتجاه واضح، ولا لبس فيه، للتسامح بين الأديان السماوية والحوار بين الثقافات، ورفض قاطع للتمييز بسبب اللون أو الجنس، واحترام الحريات الفردية والجماعية، وتبرؤ من التعذيب الذي عانى منه الجزائريون أثناء الاحتلال الإجرامي. ليس من باب اللوم أو البحث عن متهم، القول إن الاقتصار على وقائع حرب التحرير، وأحيانا الاكتفاء بشخصنتها، فضلا عن حرب استنزاف الذاكرة في الداخل بين رفاق الأمس، وملء الفراغات التاريخية التي سبقتها وعاصرتها من قِبل خبراء الكولونيالية الجديدة خلال نصف القرن الماضي، فهناك خمسة من الكتّاب يتقدّمهم اليوم المؤلّف “بنيامين ستورا” هم الذين يتقاسمون شؤون وشجون الذاكرة مع شرّاح جزائريين، بينما يتشاجر آخرون عندنا حول تفاصيل أحيانا ثانوية، أدى كل ذلك إلى ضعف التركيز على مشروع المجتمع الذي أرسى بيان الأول من نوفمبر قواعده الكبرى، واعتبرت بعض التيارات أن مجرد الانتساب اللفظي إليه، كعنوان إشهاري أو احتفاليات مناسبية، يكفي لترويجه وقبوله واكتسابه المصداقية التي حصل عليها الآباء الشهداء دون وكالة من أحد، ويتمتّع بها أولئك المجاهدون الأوفياء، لما ضحّى من أجله الشهداء وتفانوا في غرس بذوره في الأبناء والأحفاد. التغيير كيف؟ ولماذا؟ نتساءل الآن، بعد نصف قرن من تحرير الجزائر، عن القضايا الكبرى المؤثرة في صيرورة التحوّل، أي كيف يحدث؟ ومطلب التغيير، أي لماذا نتغير ونغير؟ التي يمكن أن تحظى باهتمام الساسة وقادة التفكير، أو ما يسمى الأنتليجانسيا في بلادنا، فيما بقي من هذه العشرية والعقود القليلة التالية؟ نجيب على التساؤل الكبير السابق في صورة أولويات، لها على أغلب الظن بعد إستراتيجي دائم، وذلك على النحو التالي: 1- تجد وحدتنا الوطنية جذورها وجذعها المشترك في التجربة التاريخية القديمة والحديثة، وهذا أمر مؤكد، يفيده المزيد من التوثيق العلمي وابتكار مقاربات ترسخ الإجماع حول مقوّماته، أما اليوم، وعلى ضوء التحولات الجارية، فإن ذلك الجذع المشترك ينبغي أن يعتمد أكثر على دولة قوية بشعبها وبمؤسسات تحظى بثقة مواطنيها. 2- للجزائر حدود جغرافية مع سبعة بلدان عربية وإفريقية.. ومن الإنصاف التذكير بأن الجزائر سعت، خلال نصف القرن الماضي، ليكون لها صفر مشاكل مع كل بلدان الجوار العربية والإفريقية، على الرغم من وساوس بعض الجيران، بل محاولتهم اقتطاع أجزاء من جسمها.. ومن الواضح أن فرنسا، في جمهورياتها الخمس، هي من بين الحواجز القوية ضد حضور الجزائر في الساحة الإفريقية وغربها المجاور لبلادنا بوجه خاص، يضاف لذلك النقص في استثمار سمعة الثورة والمساعدات الكبيرة لحركات التحرر من جنوب إفريقيا إلى غربها، دون تدخل في شؤون تلك البلدان بعد استقلالها. لا شك أن الجزائر مازالت تحظى بالاحترام والمكانة في تلك البلدان وكلمتها مسموعة في المحافل الإفريقية، غير أن تغير موازين القوة، منذ منتصف الثمانينيات، وتراجع حركة التحرر، وبعد أن تغلّبت المظاهر الاحتفائية على حساب المواقف المناهضة للتسلط والعدوان على حركة عدم الانحياز ومجموعة السبعة والسبعين، ونسي الجميع أنه، في يوم من الأيام، طالبت تلك المجموعة بمبادرة من الجزائر بنظام اقتصادي وإعلامي عادل. أما المنظمات الأخرى، مثل الوحدة الإفريقية التي تغير اسمها إلى الاتحاد الإفريقي، فإنها مشغولة بمسلسل الاضطرابات والانقلابات في إفريقيا، ووراءها، في الغالب، أيدي الدول الكولونيالية السابقة التي تقوم بدور البيرومان (يشعل الحريق وينادي لإطفائه). أما الجامعة العربية فقد أصبحت نقيض اسمها، فلم تعد تجمع، بل تدعو الحلف الأطلسي للهجوم على بلد عضو فيه بعد خنقه ثم استدراجه للقضاء عليه، وتجمّد عضوية آخر، وتعمل، سرا وعلنا، على دفعه أكثر إلى أتون الحرب الأهلية، بدعوى الدفاع عن حق الشعب في الحرية والديمقراطية، كأنّ كل أعضائها ينعمون بالديمقراطية وحقوق الإنسان والمواطن. أما منظمة التعاون الإسلامي، وهي المنظمة الأكبر بعد منظمة عدم الانحياز، فإن أغلب بلدانها إما مشغولة بفتن داخلية وحروب بينية، وإما تنتظر التعليمات من واشنطن أو بروكسل حتى في علاقاتها ببعضها بعضا، ويغلب على لوائحها الديباجات الخطابية، ولا تقدّم للإسلام والمسلمين أكثر من الدعاء بالصبر على الظلم وانتظار الفرج من اللّه سبحانه وتعالى. لم يظهر على الجزائر أي شبهة لفرض زعامة أو قيادة في كل تلك التنظيمات، ولعل المأخذ أو التخوف من تأثيرها ومكانتها، في محيطها القاري والجهوي والدولي، هو ما نسميه “بطاقة السوابق الثورية التحررية”، التي ترى فيها الكولونيالية الجديدة بطاقة سوابق عدلية تتطلّب وضعها تحت الرقابة. 3- إن ثروات الجزائر، في باطن الأرض أو على سطحها، هي ملكية خالصة للشعب الجزائري ودولته الوطنية، وتبديدها أو التنازل عنها ذنب لا يغتفر، وكل ما يهدد استغلالها هو تهديد للجزائر كلها، وهي تسمح، بل ترغب، في استثمار الشركاء لتطوير الإنتاج فيها، وفق نسبة 49/51 لتقاسم الربح العادل، المعروف بمصطلح (Win-Win)، وخاصة إذا كان مصحوبا بخطة جدية لتمكين الإطارات المختصة من الخبرة المطلوبة في هذا القطاع الحيوي.. وعلى الرغم من أن التقنيات التي تتطوّر وتتجدد بسرعة موجودة أساسا وراء المتوسط والمحيطين الأطلسي والهادي، فإن من حق رأينا العام أن يتساءل عن كمّ وكيف الخبرة التي حصلت عليها بلادنا، بعد حوالي أربعين سنة من استعادة الدولة حقها في تلك الثروات في ذلك اليوم المشهود (24/02/1971 -24/02/2012) ؟ وهل هناك تقييم موضوعي يسمح بالتعرّف على مواطن الضعف وأسبابه ومواطن القوّة ومدى الاستفادة منها؟ يتبع..