تواصل ''الخبر'' نشر مساهمة د.محمد أبوطارق (باحث جامعي) 7 مشروع المجتمع في بيان الثورة: التنويه: ماذا بعد التنويه؟ ليست الأمثلة السابقة سوى نماذج قليلة من المقاربات المبنية على التطابق المستمدّ من الفرضيات والنتائج التي انتهت إليها المدرسة الكولونيالية الفرنسية بوجه خاص، وبنى عليها الكثير من المختصون في علوم الإنسان والمجتمع عندنا، ولذلك فإن من أولويات البناء الوطني الاهتمام بالبحث في علاقة الدولة بالمجتمع من أقدم العصور إلى اليوم. والمحرك الحقيقي لتلك العلاقة هو الشعب ومطلبه الثلاثي الأركان، المتمثل في الحرية والعدالة بأوسع معانيها والتقدم والارتقاء، الذي حرمت منه الأغلبية زمنا طويلا. لقد بقيت تلك العلاقة مقتصرة على عموميات تشوبها مسحة من الرومانسية، على الرغم من ترسانة القوانين المستمدة من الدستور، بمختلف تعديلاته المتوالية، وما تبعها من قوانين تنظيمية ولوائح توضيحية، حافظت على الجوهر المنصوص عليه في ديباجة القانون الأساسي بإضافة البعد الأمازيغي، ولا نقول المكوّن، فليس في بلادنا أعراق منفصلة، تاريخيا أو جغرافيا ولا طوائف معزولة، فرضت عليها القيطوية (Ghetoéser) للوقاية من التوزيع المشبوه إلى سبعة أعراق، الذي روّج له شبه العلماء، برعاية إدارة الاحتلال، فالإسلام الروحاني النقي والعروبة بمخزونها الحضاري والأمازيغية بتراثها الثقافي العريق هي كلها منّا ونحن منها. يتواصل في بلادنا الجدل حول مشروع المجتمع ويتساءل البعض عن أي مشروع؟ ولأي مجتمع؟ وكأن كل التنظيمات والتقنينات التي شهدتها الجزائر ما بين 1954 و2012 حدثت في فراغ أو مجرّد استنساخ من الغير، وخارج التجربة التاريخية التي تمتد إلى عدة قرون قبل الاحتلال وأثناءه، وبعد خمسين سنة من الميلاد الجديد للدولة الجزائرية. لقد أوصل وهم الفراغ واعتقاد البعض بضرورة البداية من نقطة الصفر، بترقيم الجمهوريات على نمط ما حصل وراء البحر، أوصل فئات من النخبة إلى تقطيع مجتمعنا إلى فصائل متناحرة، وأدخلها في صراع مأساوي في حقبة من تاريخنا المعاصر كلفت الجزائر خسائر فادحة أفقدتها العديد من نخبها المبدعة والسياسية، وسمحت لأوساط كانت تنتظر الفرصة للتذكير بالأحكام العنصرية للسيد أنطوان بورو، أستاذ الطب النفسي بجامعة الجزائر سابقا، وتلاميذه عن العنف الجبلّي (violence héréditaire) عند الأهالي، وفنّد هذه المزاعم الطبيب المختص في الأمراض العقلية فرانتز فانون، أحد المناضلين العلماء الذين تبنّوا ثورة التحرير وتبنّتهم، وهو الذي وضع نظرية العنف الثوري من أجل الحرية والكرامة، مقابل الرعب والعنف الكولونيالي للإخضاع والاستعباد والإذلال الكولونيالي، والثاني عنف مشروع ومطلوب. لا تسمح الظروف الشخصية الراهنة بالنظر في الخطابات الحزبية الباحثة عن المجتمع الجزائري، وكأنه نكرة في عالم الأمس واليوم، ولا عن المشروع المنشود على مقاس كل تيار، فنحن على مسافة واحدة منها، على الرغم من النشأة والنمو في بيت أحدها والوفاء لمبادئه المبنية على توحيد الوطن، أرضا وشعبا، وتحريره الدائم من الوصاية الخارجية الثقافية والاقتصادية والتبعيات الإيديولوجية، ومساوئ القبلية الرجعية و''التدين الاحترافي''. لقد وضع بيان الأول من نوفمبر 1954 أسس مشروع المجتمع والدولة الجزائرية الحديثة، ومن حق الأحزاب، والتيارات السياسية في المجتمع المدني التي تدور في فلكها، أن تقترح برامج تطبيقية ضمن الإطار العام لذلك البيان المؤسس لتقديم حلول لقضايا الحاضر والتطورات المحتملة في المستقبل. يثبت ذلك البيان بعد 58 عاما (1954 -2012 ) وتوالي ثلاثة أجيال، أنه معاصر ومستقبلي، ولا يقبل الحذف أو الإضافة، وعلى درجة عالية من التوازن والفهم العميق لما كان عليه الشعب الجزائري وما ينبغي أن يكون عليه، ومتطلبات دولة القانون وحقوق المواطن الذي يحمل الجنسية الجزائرية في الجزائر بعد التحرير، مهما كان أصله السابق فلا أفضلية مطلقة لجزائري أصلي (de souche) وهو وصف لم يستعمل أبدا في الأدبيات الرسمية، وغيره من أي جنسية أجنبية أخرى، إذا قبل قوانين الدولة الجزائرية من المستوطنين سابقا، ولم يطلب أحد من قادة الثورة الثأر والقصاص من عدو الأمس. في بيان الأول من نوفمبر إعلان مبكّر وطوعي عن الحقوق الثابتة للإنسان والمواطن، واتجاه واضح، ولا لبس فيه، للتسامح بين الأديان السماوية والحوار بين الثقافات، ورفض قاطع للتمييز بسبب اللون أو الجنس (Gender)، واحترام الحريات الفردية والجماعية، وتبرؤ من التعذيب الذي عانى منه الجزائريون أثناء الاحتلال الإجرامي. إن مبادئ الثورة الجزائرية ليست مستوردة، ولم تفرضها أي جهة خارجية على بلادنا، وهي تخوض ملحمة التحرير الوطني، وقد وقّعتها أغلبية من الشعب الجزائري، باحتضانه لثورة الخلاص من جبروت الاحتلال وانتهاكاته الصارخة لحقوق الإنسان، فعلا، في ذلك اليوم المشهود من نوفمبر 4591، وإذا وقعتها الدولة اليوم في المحافل الدولية فلن يكون ذلك بسبب ضغط أو عقدة. لم يسمح الاستقطاب من وراء البحر، وتشرذم النخب بعد التحرير، والصراعات التي دارت في السلطة وحولها من إخراج مشروع المجتمع الأصلي والأصيل، كما ورد في بيان الثورة والتعريف به خارج الحدود، بواسطة البحث والتنظير والعناية به عن طريق الإبداع في الفنون والآداب، كما حدث للثورات الثلاث، الفرنسية والأمريكية والبولشفية، التي تراكمت في موضوعها وأهدافها دراسات وإبداعات في الآداب والفنون، منذ ما يزيد على قرنين، وأصبحت لها مرجعية كونية، على الرغم مما تعرضت له من نكسات في الداخل وممارسات تناقض تماما ما ورد في إعلاناتها المبدئية، وسواء مجّدها البعض أو انتقد آخرون بعض ممارساتها، فهي حاضرة في كثير من الأدبيات ومصدر مقارنة أو مرجعية في أغلب بلاد العالم الثالث. ليس من باب اللوم أو البحث عن متهم، القول إن الاقتصار على وقائع حرب التحرير، وأحيانا الاكتفاء بشخصنتها، فضلا عن حرب استنزاف الذاكرة في الداخل بين رفاق الأمس، وملء الفراغات التاريخية التي سبقتها وعاصرتها من قِبل خبراء الكولونيالية الجديدة خلال نصف القرن الماضي، فهناك خمسة من الكتّاب يتقدمهم اليوم المؤلّف ''ستورا'' (Stora) هم الذين يتقاسمون شؤون وشجون الذاكرة مع شرّاح جزائريين، بينما يتشاجر آخرون، عندنا، حول تفاصيل أحيانا ثانوية، أدى كل ذلك إلى ضعف التركيز على مشروع المجتمع الذي أرسى بيان الأول من نوفمبر قواعده الكبرى، واعتبرت بعض التيارات أن مجرد الانتساب اللفظي إليه، كعنوان إشهاري أو احتفاليات مناسباتية، يكفي لترويجه وقبوله واكتسابه المصداقية التي حصل عليها الآباء الشهداء من دون وكالة من أحد، ويتمتّع بها أولئك المجاهدون الأوفياء لما ضحّى من أجله الشهداء وتفانوا في غرس بذوره في الأبناء والأحفاد. 8 التغيير كيف؟ ولماذا؟ نتساءل، الآن، بعد نصف قرن من تحرير الجزائر من الكولونيالية المباشرة ما هي القضايا الكبرى المؤثّرة في صيرورة التحوّل أي كيف يحدث؟ ومطلب التغيير أي لماذا نتغير ونغير؟ التي يمكن أن تحظى باهتمام الساسة وقادة التفكير، أو ما يسمى الإنتليجانسيا في بلادنا، فيما بقي من هذه العشرية والعقود القليلة التالية؟ نجيب على التساؤل الكبير السابق في صورة أولويات لها على أغلب الظن بعد إستراتيجي دائم، وذلك على النحو التالي: 1 - تجد وحدتنا الوطنية جذورها وجذعها المشترك في التجربة التاريخية القديمة والحديثة، وهذا أمر مؤكد، يفيده المزيد من التوثيق العلمي وابتكار مقاربات ترسخ الإجماع حول مقوماته، أما اليوم، وعلى ضوء التحولات الجارية فإن ذلك الجذع المشترك ينبغي أن يعتمد أكثر على دولة قوية بشعبها، وبمؤسسات تحظى بثقة مواطنيها الذين يحمون دولتهم وتحميهم داخل حدودها وخارجها، وتقتنع الأغلبية من ساكنتها بأنها في ظل حكم راشد وعادل حيث ما كانوا على ترابها ويحملون جنسيتها التي يعتزون بها، ويعملون مع دولتهم، لتكون محترمة بين الأمم، فعدد قليل من الحرافة في قوارب ''الهربة'' يؤثّر على سمعة الملايين من حاملي تلك الجنسية. 2- للجزائر حدود جغرافية مع سبعة بلدان عربية وإفريقية، ولها معها تاريخ ثقافي وسكاني مشترك، ظهرت أهميته، بوجه خاص، أثناء ثورة التحرير، واستمر في خط متذبذب إلى مستهل الثمانينيات من القرن الماضي، لكن الكولونيالية بمندوبيها القدماء، وبأسماء جديدة، أبقت قبضتها القوية على مناطق نفوذها، وخاصة في غرب إفريقيا، فهي وراء الكثير من الانقلابات والصفقات المشبوهة لنهب ثروات تلك البلدان، في مزادات علنية وسرية، كما فعلت بتجارة الرقيق لبناء أوروبا والولايات المتحدة. من الإنصاف التذكير بأن الجزائر سعت، خلال نصف القرن الماضي، ليكون لها صفر مشاكل مع كل بلدان الجوار العربية والإفريقية،على الرغم من وساوس البعض من الجيران، بل محاولتهم اقتطاع أجزاء من جسمها الذي رأوه أشبه بالعملاق، وحاول بعضهم منعه من تقوية عضلاته الدفاعية، التي لا تحمل أي مؤشرات عدوانية. ومن الواضح، بل ومن الواجب تسمية الأطراف بأسمائها، ففرنسا، في جمهورياتها الخمسة، هي من بين الحواجز القوية ضد حضور الجزائر في الساحة الإفريقية وغربها المجاور لبلادنا بوجه خاص، يضاف لذلك النقص في استثمار سمعة الثورة والمساعدات الكبيرة لحركات التحرر من جنوب إفريقيا إلى غربها، دون تدخل في شؤون تلك البلدان بعد استقلالها.. يتبع..