وضعت القمة الأخيرة لمجموعة العشرين، المحادثات بين القوى الكبرى تحت الضوء: روسيا والصين الرافضتان بقوة للتدخل العسكري في سوريا، وباقي القوى المؤيدة للضربة. وحتى داخل الجناح الغربي الأطلنطي، الضربة العقابية المحتملة ضد سوريا مازالت لا تحقق الإجماع بين دوله إلى الآن. ففي قلب هذه الدول التي تقدّم خطابا حربيا تظهر موجة كبيرة من الرفض والعداء لأي عملية عسكرية. من ذلك، أن ثلثي الفرنسيين ليسوا مع توجيه ضربة عسكرية. فكارثة التدخل العسكري لساركوزي في ليبيا مازالت تطبع الذاكرة القريبة للفرنسيين. الرأي العام الأمريكي ما زال هو الآخر واقعا تحت صدمة أكاذيب جورج بوش ونائبه ديك تشيني حول استعمال الأسلحة الكيميائية في العراق، وهو يرفض أي مغامرة جديدة، في وقت استعادت الولاياتالمتحدة طريق النمو الاقتصادي. أما بريطانيا العظمى، فبرلمانها رفض ببساطة أي فكرة عن المشاركة في عملية مسلحة بسوريا. ورغم انخراط وسائل الإعلام في فكرة معاقبة العرب وتأييد الضربة على سوريا، إلا أن الرأي العام المحلي الغربي يشعر أن ضرب سوريا ليس عملا حربيا ينتصر للقيم الغربية كما قال بوتين، لأن النظام السوري هو أفضل مدافع عن الحرية الدينية في الشرق الأوسط. المواطن العادي يرى بأن الصراع السوري ليس صراعا دينيا ومذهبيا بقدر ما هو مشكل سياسي يهدد التوازنات الكبرى العالمية. من أجل فهم الألعاب الخفية التي وضعتها باريس وواشنطن ولندن وأيضا أنقرة والرياض، لا بد من استعادة شيء من تاريخ سوريا في سياق نهاية الإمبراطورية العثمانية. يقال دائما إن التاريخ يعيد نفسه، وبأن الأجداد يعودون في كل جيل ليحدثونا عن أطماع الغزاة، غير أن التاريخ يبين لنا بأن مصالح باريس ولندن وواشنطن كانت دائما متضاربة حينما يتعلق الامر ب “سوريا الكبرى”. العواصم الثلاث لم تكن أبدا متفقة إلا حول نقطة واحدة تفكيك الإمبراطورية العثمانية (التي كانت حليفا لألمانيا في الحرب العالمية الأولى) واستبدالها بدويلات تسير بأمرها. بين 1917 و1918 كان لورانس العرب حليف الملك فيصل ابن الحسين، معارضا لمشروع سلطان مكة شريف الحسين، الذي يقضي بإقامة مملكة عربية متحدة تضم الحجاز وما يعرف بالأردن حاليا والعراق وسوريا الكبرى، لأنه كان يعتقد أن تجزئة المنطقة إلى عدة دول ووضعها تحت سيطرة بريطانيا يصب في مصلحة بلده، مما جلب له عداوة شرسة من الكولونيل بريموند، رئيس البعثة الفرنسية في الحجاز، حيث كان يعتبر لورانس العرب من كارهي فرنسا بالغريزة. في سنة 1918، قام الفرنسيون والبريطانيون رسميا بتحرير العرب من “نير العثمانيين”. الجنرال الإنجليزي “ألنبي” نصب فيصل ملكا على دمشق، وأنزل الفرنسيون قواتهم في بيروت التي كانت لا تزال مدينة من سوريا الكبرى بعد أن شغلتهم حرب التحرير التي خاضها ضدهم الإيرلنديون، ترك البريطانيون لفرنسا مهمة إدارة سوريا. وفي جوان 1919 قامت لجنة التحقيق الأمريكية “كين كران”، بإجراء تحقيق لصالح عصبة الأمم (النسخة القديمة للأمم المتحدة التي كان مقرها في ضواحي باريس)، حول حالة الرأي العام السوري. وكانت النتائج التي توصل إليها التحقيق تؤكد معارضة السوريين لأن يكونوا تحت الحماية، ورغبتهم في إقامة سوريا الكبرى التي تضم فلسطين. ورفض الفرنسيون تماما نتائج التحقيق في حين تجاهله أيضا البريطانيون. أما الولاياتالمتحدة فكانت تفضل في ذلك الوقت الانعزال، ولكن هذه المرحلة من التاريخ تظهر بوضوح الاختلافات التي كانت حاصلة بين القوى الثلاث حول موضوع سوريا. لقد وضعت عصبة الأمم في 25 أفريل 1920، العراق وفلسطين تحت الحماية البريطانية، وسوريا ولبنان تحت الحماية الفرنسية تمهيدا لحصول الدول العربية على الاستقلال. لكن فرنسا أدارت ظهرها لما صدر عن عصبة الأمم، ولم تتوقف يوما عن ممارسة سياسة استعمارية في المنطقة. وفي جويلية من نفس السنة، دخلت القوات الفرنسية المحتلةدمشق تحت قيادة الجنرال “غورو” الذي وجّه رسالة إلى الشعب السوري مليئة بالتهديد، مذكرا بشكل غريب بتصريحات الحكومة الحالية للقوة الاستعمارية السابقة “أنتم تجهلون كل شيء، أيها السوريون، منذ ستة أشهر تجاوزت الحكومة في دمشق مدفوعة بأقلية متطرفة كل الحدود باتباعها السياسة الأكثر عدوانية تجاه الفرنسيين..بشعور إنساني يجمع كل الفرنسيين، ليست لدي النية لاستعمال الطائرات ضد الشعب غير المسلح، ولكن بشرط ألا يتعرض أي فرنسي أو مسيحي للقتل. أما إذا حدثت مجازر، فسنرد بانتقام رهيب من الجو”. بعد أشهر من ذلك، طالب الجنرال غورو من جانب واحد بمنح الاستقلال لدولة لبنان، ليُحدث بذلك أول تفكك لسوريا الكبرى التي فقدت أيضا ميناء طرابلس. وعقب طرده الفرنسيين له من عرش سوريا، نصب البريطانيون فيصل ملكا على العراق. المحتلون الفرنسيون قرروا أيضا فصل دمشق عن حلب. والمصادفة أننا نجد أحيانا في خطاب أنصار الحرب على سوريا حاليا ميولا لتقسيم سوريا وإقامة دولة في حلب. أول انتفاضة وطنية سورية قامت في وجه المحتلين بين 1925 و1927. ولكن الأمر تطلّب وصول الجبهة الشعبية في 1936 من أجل أن تقبل باريس بالحوار مع وفد يضم ممثلين عن السوريين. المفاوضات انتهت في 22 ديسمبر باتفاق “فيينو”، الذي تضمّن ميثاقا لاستقلال سوريا في 5 سنوات. هذا الميثاق صادق البرلمان السوري عليه بالإجماع، ولكنه لم يعرض أصلا على البرلمان الفرنسي والمشروع تم إجهاضه في سنة 1938. في السنة الموالية، تخلت فرنسا عن “السنجاق” السوري لتركيا لدفع أتاتورك للتخلي عن هتلر. وفي وقت كانت فرنسا محتلة من ألمانيا، أعلن الجنرال “كاترو” قائد القوات الديغولية بشكل علني الاستقلال لسوريا ولبنان، وإنهاء الحماية الغربية على الشرق. ولكن أنصار حكومة فيشي العميلة لألمانيا الذين كانوا يتحكمون في المستعمرات رفضوا هذا القرار، وبقيت سوريا تحت السيطرة الفرنسية. وفي 03 جانفي 1944، اعترفت فرنسا رسميا بسيادة سوريا ولبنان على أراضيهما. ولكن في 29 ماي 1945، بعد عشرة أيام من المظاهرات المستمرة، قنبل الفرنسيون تحت أوامر الجنرال “فرناند أوليف” دمشق مدة 36 ساعة متواصلة، مخلّفين المئات من الموتى والجرحى، وتم تدمير جزء من المدينة بفعل هذا القصف فأصبح حي البرلمان يسمى “الحريقة”. إثر ذلك، طلبت بريطانيا وقف المعارك وتدخلت في 01 جوان من أجل وقف الهجوم الفرنسي، وفي أفريل غادر آخر جندي فرنسي سوريا. من خلال ما سبق، يعلمنا التاريخ كثيرا حول المصالح المتضاربة للدول الاستعمارية. ولكنه يضيء ويشرح بالمقابل دوافعهم الحالية. الفرنسيون والبريطانيون لم يكونوا أبدا متفقين حول المسألة السورية. نستطيع أن نفهم اليوم سبب اختباء دافيد كاميرون وراء تصويت نواب برلمانه حتى لا يدخل في حرب ضد سوريا، إلى جانب فرنسا التي قد تُتهم بأنها تسعى لتصفية حسابات قديمة مرتبطة بفترة الحماية على سوريا ولبنان. التاريخ الفرنسي أظهر أن الاشتراكيين انخرطوا دائما في الثقافة الاستعمارية. فمن الدعم الكبير الذي قدمه “ليون بلوم” للحرب ضد عبد الكريم الخطابي قائد ثورة الريف في المغرب، إلى مفهوم “منطق الحرب” الذي روج له الرئيس ميتيران، مرورا ب “سوستال” و”غي مولي”، التاريخ مليء بالأمثلة والمواقف المؤيدة للغزو وإعادة الغزو. وفي خضم ذلك، نستطيع أن نفهم الاحتياطات الكثيرة المتخذة من أوباما، لتجنّب خوض غمار الحرب التي قد تقطف باريس جميع ثمارها. يمكننا أن نفهم أيضا روح الانتقام التي تستبد بأنقرة ضد السوريين، المتهمين حسب الأتراك بتسريع انهيار امبراطوريتهم السابقة. من جانبها، الولاياتالمتحدة ودول الجزيرة العربية وضعوا المذهب الشيعي عدوهم الأساسي. ولكن الأفكار حول سوريا ستجد صعوبة بالغة في أن تلتقي لتبرر تحالفا ذا مصداقية. لذلك، قد نفهم لماذا خارج تركيا وقطر، كل القوى العظمى لا تظهر متحمسة للاندفاع وراء فرنسا. والسؤال الرئيسي هنا كما في روايات أغاتا كريستي من هو المستفيد من الحرب